ما بين الحديث عن إنجازٍ حقّقه رئيس مجلس النواب نبيه بري بإجراء المصالحة بين رئيس الحكومة سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط، وعن خطوة متقدّمة خطاها للتقرّب مجدّداً مع الحريري وطيّ صفحة الماضي، تظهر بعض الأسباب الموجبة التي دفعت الى «لقاء كليمنصو» في شكله ومضمونه. فإن تقدّمَ بري خطوةً سايره جنبلاط بكيلومتر في المقابل. فكيف الوصول الى هذه المعادلة؟
لا يمكن أيّ قارئ سياسي إلّا أن يتوقف عند اللقاء الثلاثي الذي شهدته دارة جنبلاط في كليمنصو وضمّ اليه بري والحريري وأقرب مساعديهم الوزير علي حسن خليل والنائب وائل أبو فاعور وتيمور جنبلاط في شكله ومضمونه وتوقيته في اعتباره حدثاً سياسياً يؤشر الى مسار العلاقات بين القادة الثلاثة في المرحلة المقبلة ولا يتوقف الأمر عند حدَث عابر في حدّ ذاته.
ولذلك تقلّل المراجع المعنية التي رافقت التحضير للقاء واوحت به وعملت من أجله من أهمية ربطه بالتحضيرات الجارية للجلسة التشريعية التي عُقدت في اليوم التالي وتنسيق المواقف من بعض الضرائب.
لا بل اعتبرته ربطاً سطحياً إن لم يكن سخيفاً. فالمعادلات النيابية والسياسية التي حكمت وتحكّمت بالقانون الجديد للضرائب وما رافقه من مشاريع قوانين أخرى تتصل بتجميد السلسلة، لا تحتاج الى مثل هذا اللقاء، فالأمر محسوم لدى مختلف الأطراف وعبور الجلسة كان مضموناً على رغم بعض الضجيج.
فقد استوعب الجميع قرار المجلس الدستوري ما عدا قلّة كانت ترفض الربط بين قانون الضرائب والموازنة قبل أن تتضح الصورة التي عكسها هذا القرار. فالحديث عن التلازم بين الأمرَين لا يمسّ دور مجلس النواب التشريعي فالجميع يسلم به وإنّ الحديث عن «ضرائب في موازاة البتّ بالسلسلة» لا يعني أنّ إقرار الضرائب يجب أن يكون من ضمن بنود الموازنة بمقدار ما يجب أن يصبّ مردودُها في قلب الموازنة العامة.
فلا يسمح الدستور بتخصيص ضريبة أو رسم لهدف محدَّد خارج إطار مصاريف الدولة، بل إنّ كل ما تجبيه يجب أن يصبّ في متن الموازنة لتوزَّع من بعدها وفق بنود الصرفيات فيها بعد احتسابه من زاوية مواردها.
وعليه وبعد صرف النظر عن هذا التفسير «البسيط» واعتباره سبباً لعقد اللقاء، بقي أن ينفي أركان اللقاء أنه جاء ردّة فعل مباشرة وفورية على المواجهة السعودية ـ الإيرانية التي بلغت الذروة أمس الأول بين الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله ووزير الدولة السعودي لشؤون الخليج المكلف الملف اللبناني ثامر السبهان.
فاللقاء متفَق عليه منذ أيام بسرّية تامة نجح أطرافُه الثلاثة في إخفائه عن قنوات التسريب الإعلامي حرصاً على ما يبتغونه من أهداف أبعد من مواجهة آنيّة لها سقوفها وحدودها السياسية الداخلية والإقليمية والدولية. وعليه وبعد سقوط هذين السببين توجّهت الأنظار بحثاً عن أسباب وخلفيات أخرى فتوقّفت عند المحطات الآتية:
– زيارة جنبلاط المفاجِئة لـ«بيت الوسط» قبل عشرة أيام عقب عودة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من نيويورك شكّلت منعطفاً في توجّهاته الداخلية. فهو صارَح الحريري بضرورة طيّ صفحة الخلافات بينهما والسير الى الأمام في موقف واحد لأنه متوجّس من لقاء وزير الخارجية جبران باسيل مع نظيره السوري وليد المعلم ما شكل نقطة تحوّل رأى في ضوئها أنّ عليه أن يكون الى جانب الحريري «ظالماً كان أم مظلوماً»، أيّاً كانت الظروف التي قادت الى المواقف منه قبل هذا الحدث.
– لم يكن بري يوماً محبِّذاً أيَّ شكل من أشكال «الزعل» بين الحريري وجنبلاط فهو يشجّع على علاقات مميّزة بينهما ومستعدّ لأن يكون الطرف الثالث في هذه العلاقة لما تشكّله من استقرارٍ سياسي وعنصراً مهماً في التوازنات الداخلية، وينتصر في أيّ لحظة لما يحصّن موقع الرجلين على حدّ سواء.
فما بينه وبين جنبلاط من تاريخ لا يتنكران له وهما على إستعداد لحمايته ليبقى فوق كل التحالفات الأخرى وفي كل الإستحقاقات، ولعبة التوازن الداخلية الدقيقة لن تكون كما يراها بري ما لم يكن ثلاثي عين التينة ـ بيت الوسط ـ كليمنصو على توافق وتفاهم.
– وما بين النظريّتين يشعر الحريري بالحاجة الى مثل هذا اللقاء ليخوض الإستحقاقات التي يواجهها على اكثر من مستوى. في الداخل كما في الشأن الإقليمي، وتحديداً ملف التطبيع الذي يسعى اليه البعض مع سوريا لما يشكّله من إرباك على الساحة الداخلية وهو يوفّر بمثل هذا اللقاء تحصيناً لموقفه الرافض أيّ شكل من أشكال العلاقة مع النظام السوري قبل أن تستقرّ المفاوضات في ملف الأزمة السورية على شيء ثابت يمكن الركون اليه لتحديد الموقف من الوضع الجديد.
وعليه، فقد رجّحت مصادر المجتمعين هذه القراءة للأسباب التي دفعت الى هذا اللقاء، فالتقت المصالح رغم اختلاف الغايات. فقلق الحريري وجنبلاط من شكل التعاطي مع النظام السوري لا يشاركهما فيه بري الى النهاية، لكنه ليس على جانب النقيض تماماً.
فهو يدرك حساسية الموقف ولديه هامش واسع من الحركة، وإنّ ما يريده بري من هذا الحلف الجديد كبير وعظيم فهو قلِق من تصرّفات أركان العهد ولا سيما منها حركة جبران ومواقفه، وهو فقد الأمل في أيّ شكل من أشكال التعاون خارج ما تفرضه العلاقة بين كونه رئيساً لمجلس النواب وبين رئيس الجمهورية.
ولذلك يمكن القول إنّ الفصل الذي التقى عليه الثلاثي بين شكل ومضمون التعاطي مع رئيس الجمهورية من جهة ومع صهره وزير الخارجية من جهة أخرى سيكون من الإستراتيجيات التي جمعت القادة الثلاثة، وإنّ الأيام المقبلة ستُظهِر ذلك بنحوٍ أكثر وضوحاً رغم حاجة الحريري الى عبور ما يمكن تسميته حقلاً من الألغام في وقت لن يكون بري وجنبلاط مضطرَّين الى هذه المغامرة، فهما لا يريان نفسيهما في الحقل نفسه في طريقهما الى هذا الحلف القديم – الجديد.
ولذلك كله، ما أن اقترح بري هذا اللقاء وتمنّى حصوله حتى تجاوب الرجلان بخطوة كان لا بدّ منها لإسدال الستارة على مشهد غير مريح بين «كليمنصو» و»بيت الوسط» حتى وافاه جنبلاط سريعاً في التحضير والدعوة اليه ضماناً لنجاحه على خلفيّة القول المأثور «اللي بدك منو متر بدي منو كيلومتر».
جورج شاهين – الجمهورية