يختصر المشهد السياسي في لبنان سباقٌ بين أسئلةٍ «تتوالد» ولا ترتسم في الأفق رداً عليها إلا أجوبةٌ على طريقة «الشيء وضدّه»، ما يعكس حال التخبُّط التي تعيشها البلاد الساعية الى الحفاظ على ستاتيكو الاستقرار في غمرة «الانفجار الكبير» في المنطقة الذي ينذر بفصولٍ أكثر «ضراوة».
ففي المشهد الانتخابي حيث تنتهي غداً مهلة تقديم تصاريح الرجوع عن الترشيحات قبل أن يقفل منتصف ليل 26 – 27 الجاري باب تسجيل اللوائح التي لا يمكن خوض الانتخابات النيابية وفق القانون الجديد إلا من خلالها، انفتحتْ مرحلةٌ من «الصوت العالي» في الخطاب لا تُقرأ إلا في اتجاهين: إما أن «الصراخ» على خلفية اتهامات بالفساد والذي انفجر بين حزب «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» (حزب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون) والذي لم يوفّر «تيار المستقبل» (يقوده الرئيس سعد الحريري) هو في سياق لعبة «شدّ الحبال» قبل ختْم المفاوضات «الشاقة» بين «القوات» و«المستقبل» حول دوائر «علِق» عندها التحالف «المحسوم» في الشوف وعاليه، وإما أنه في إطار «تمرينٍ» للخطاب الذي سيخاض على أساسه استحقاق 6 مايو المقبل.
وكان «الكلام العالي» الذي أطلقه نائب رئيس الحكومة وزير الصحة غسان حاصباني (من «القوات اللبنانية») واستهدف «التيار الحر» في ما خص ملف الكهرباء، «أصاب» في طريقه «المستقبل» حيث انتقد حاصباني شعار حملة الأخير الانتخابية وردّ على ما نُقل عن الرئيس الحريري سابقاً عن الحاجة إلى منجّم مغربي ليعرف ماذا تريد القوات (في المفاوضات حول الانتخابات)، الأمر الذي استدرج سجالاً من «العيار الثقيل» بين الحزبين المسيحييْن («التيار الحر» و«القوات») وردّاً من مرشّح «المستقبل» عن المقعد الماروني في طرابلس جورج بكاسيني.
وجاء هذا السجال قبيل لقاء انتخابي مساء الأحد بين وزير الإعلام ملحم الرياشي مكلفاً من رئيس «القوات» الدكتور سمير جعجع ووزير الثقافة غطاس خوري مفوّضاً من الحريري، وهو الاجتماع الذي فَرَضَ عقد اجتماع لقيادة «المستقبل» أمس ناقشَ الخطوط التفصيلية للتحالف مع «القوات» في ضوء ما خلصت إليه مداولات الرياشي – خوري وشخصتْ الأنظار إليه باعتبار أنه سيكشف «الخيْط الأبيض» من الأسود في ما خصّ «خريطة التحالفات» بين الجانبيْن.
وعلى قاعدة «الشيء وعكسه» نفسها، رواحتْ القراءات لمغازي معاودة الرئيس عون تقديم «وعد» بمعاودة بحث «الاستراتيجية الوطنية للدفاع» (سلاح حزب الله) بعد الانتخابات النيابية، بين مقاربتيْن: الأولى اعتبرت أن هذا الطرح الذي تلقّفه الحريري وشكّل أحد مرتكزات مخاطبته المجتمع الدولي في مؤتمر روما -2 لدعم الجيش والقوى الأمنية الذي عُقد يوم الجمعة الماضي هو في سياق عملية «شراء للوقت» يريدها لبنان لمحاولة احتواء الضغوط الدولية التي يُتوقَّع أن تتزايد على «حزب الله» ويُخشى أن تتّخذ أبعاداً عسكرية في لحظة «قرار كبير» أو «سوء تقدير كبير»، وتالياً تقديم إشارة حُسن نية يمكن على أساسها جذْب دعم دولي متجدّد للبنان وقواه العسكرية والأمنية ولاحقاً اقتصاده. وهذا السيناريو، الذي ينطوي على إدراكٍ لبناني عميق بعدم القدرة على بتّ ملفٍ بحجم سلاح«حزب الله»، الذي بات جزءاً من معادلة اقليمية كبيرة، بإطارٍ «ملبْنن»، يعني أن العالم الذي يستعدّ لتكريس مظلّة الدعم لبلاد الأرز في مؤتمريْ باريس وبروكسيل لن يكون في وارد الترجمة المالية للاحتضان المتجدد للبنان قبل تلمُّس مسار جدي في الطريق الى وضْع ملف السلاح على الطاولة.
أما المقاربة الثانية فوضعتْ إحياء عنوان «الاستراتيجية الدفاعية» في سياق استشعار لبنان الرسمي بأن الهوامش باتت ضيّقة الى أبعد الحدود في ما خصّ إدارة الظهر لملف السلاح في ظل الوقائع المالية والاقتصادية المقلقة والمخاوف من «مفاجآت عسكرية» في المنطقة، ما يجعله يبحث جدياً عن حلّ بإنهاء وضعية السلاح خارج الدولة. الا أن هذا السيناريو يبدو في نظر أوساط سياسية غير واقعي بالكامل نظراً الى أنّ «تضخُّم» الأدوار العسكرية لـ»حزب الله» في ساحات المنطقة يجعل من التبسيط تَصوُّر مجرّد إمكان التفكير في إنهاء وظيفته من الزاوية اللبنانية قبل اكتمال اللوحة في المحيط المتفجّر، وفي توقيتٍ لا يحدّده الحزب نفسه ومن ورائه إيران مع«الأثمان»المترتبة عليه.
وهذا يعني، حسب الأوساط نفسها أيضاً، أن الوعود بمساعدة لبنان هي إما في إطار رغبة فعلية بتقديم «طوق نجاةٍ» له على قاعدة بدء الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية بوصفها «التزاماً بالحوار بين اللبنانيين والتزام المجتمع الدولي بأهمية هذا الحوار بدل الاستمرار باعتماد أسلوب المواجهة أو أسلوب العقوبات أو الحصار الاقتصادي الذي يتسبب بمشاكل كثيرة للبلد» كما عبّر وزير الداخلية نهاد المشنوق أمس، وإما في سياق رسْم «دفتر الشروط» للبنان وبنده الأول «السلاح غير الشرعي أولاً».
(الراي)