بدا لبنان أمس مشدوداً إلى «الستاتيكو الغامض» الذي ينتظر البلاد بعد السقف العالي الذي رسمه اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب الاستثنائي في القاهرة حيال إيران و«حزب الله» والمناخ الدولي المناوئ لأدوار طهران «المزعْزعة للاستقرار في المنطقة» وبرنامجها البالستي.
وعلى متن هذا السقف العربي – الدولي، يعود رئيس الحكومة سعد الحريري اليوم إلى بيروت بعد أن يقوم بزيارة سريعة لمصر يلتقي خلالها الرئيس عبد الفتاح السيسي، لتنطلق مع وصوله الى لبنان المرحلة الأشدّ حساسية التي تمرّ بها البلاد منذ أعوام والتي شكلت استقالته إشارتها «المدوّية» التي جاءت محمَّلة بكل تعقيدات الواقع اللبناني بتقاطُعاته الاقليمية العاصِفة.
وفي حين يبدو أن أحداً في لبنان لا يملك «التصوّر الحقيقي» للخطوة الأولى التي سيقوم بها الحريري فور عودته إلى بيروت، التي كان غادرها في 3 الجاري الى الرياض ليعلن في اليوم التالي استقالته منها، فإن الوقائع التي شهدتْها الساعات الماضية تشي باكتمال عناصر الضغط العربي – الدولي على طهران و«حزب الله» من ضمن عنوان الحدّ من نفوذ إيران في المنطقة ووقف تَمدُّدها عبر الحزب في الساحات العربية، وهو الضغط الذي يوفّر عوامل استعادة التوازن إلى المشهد اللبناني بما من شأنه أن يفضي إلى واحد من نتيجتيْن: إما استيلاد التسوية السياسية، التي شكّلت الاستقالة ضربة قوية لها، بنسخةٍ منقّحة تراعي «دفتر الشروط» الخارجي حيال سلوك «حزب الله» و«أدواره التخريبية» ما يعني تالياً إبقاء لبنان في «منطقة الأمان»، وإما إدخال البلاد في أزمة مفتوحة على المواجهة الإقليمية المتعاظمة واستدراج لبنان إلى «عين العاصفة».
وفي هذا السياق، توقفت أوساط سياسية عند مقررات اجتماع وزراء الخارجية العرب التي أحدثتْ عملياً ربْط نزاع مزدوجاً، أولاً مع الحكومة اللبنانية «المستقيلة» كما «المستقبلية» من خلال تكرار وصْف «حزب الله» بأنه منظمة إرهابية مع إضافة نوعيه شكّلها تعريفه كـ «شريك في الحكومة اللبنانية» وتحميله بهذه الصفة «مسؤولية دعم الإرهاب والجماعات الإرهابية في الدول العربية بالأسلحة المتطورة والصواريخ البالستية»، وتأكيد «ضرورة توقفه عن نشر الطائفية والتطرف وعدم تقديم أي دعم للارهابيين في محيط إقليمه».
واعتُبرت هذه الإشارة تحميلاً ضمنياً للحكومة إنْ لم يكن مسؤولية أفعال «حزب الله» فأقله مسؤولية ضبْط حركته، وسط تَوقُّف أوساط مطّلعة عند تأكيد لبنان الرسمي أنه نجَحَ عبر اتصالاته في شطب بنود كانت تدين الحكومة اللبنانية مباشرةً، وإشارة تقارير متقاطعة إلى إجراءات تجنّبتها بيروت مثل تعليق عضوية لبنان، وهو ما يعني أن العرب أعطوه فرصة أخيرة لتدارُك الأمور قبل بلوغ «الأسوأ».
وربْط النزاع الثاني الذي أَحْدثه اجتماع القاهرة كان مع إيران، عبر وضْع العرب اعتراض الصوت العالي على تدخلاتها في شؤونهم وممارساتها و«خروقاتها» و«تهديدها للأمن القومي العربي» و«عدوانها على السعودية» عبر إطلاق الصاروخ البالستي على الرياض، على سكة «التدويل» عبر الطلب من المجموعة العربية في نيويورك إحاطة مجلس الأمن ومخاطبته في شأن نهج إيران وخروقها لقرارات دولية متصلة ببرنامج الصواريخ البالستية و«تزويد الميليشات الإرهابية في اليمن بالأسلحة».
وإذ رأت الأوساط المطلعة أن هذه النقطة شكّلت تمهيداً لتقديم شكوى ضدّ إيران إلى مجلس الأمن بحال استمرّت طهران في مشروعها، لاحظتْ أن «الغضبة» العربية لاقتْ التشدد الدولي إزاء إيران «وضرورة مواجهة أنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة»، كما جاء في البيان حول الاتصال الذي أجراه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بنظيره الأميركي دونالد ترامب اول من أمس.
وحدّد الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، الذي زار بيروت أمس للمشاركة في مؤتمر دعت إليه «الإسكوا»، المطلوب من لبنان في المرحلة المقبلة، وإن كان قدّم مقاربة «مُلطَّفة» لمضمون مقررات اجتماع القاهرة خلال اجتماعه مع كل من رئيسيْ الجمهورية العماد ميشال عون والبرلمان نبيه بري اللذين أكملا الاعتراض الذي سجّله مندوب لبنان في الجامعة العربية على تصنيف «حزب الله» بالإرهابي والإشارة الى وجوده في الحكومة، وصولاً إلى دفاع عون ضمناً عن الدور المُقاوْم للحزب.
فأبو الغيط حمل رسالتيْن، الأولى بأن عبارة «حزب الله» شريك في الحكومة لا تعني بأي شكل «اتهام الحكومة اللبنانية بالإرهاب»، بل إن الشراكة مع الحزب في الحكومة تعني وجوب التحدث معه «لضبط إيقاعه في العالم العربي»، مع تذكيره بأن قرار وزراء الخارجية العرب ذكر المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة «التي تنص على حق الدفاع عن النفس والتعامل مع الضربات الصاروخية البالستية في التوقيت والشكل الذي يختارونه (السعودية)». أما الرسالة الثانية فهي أن العرب لا يريدون أن يكون لبنان مسرحاً لصدام عربي – إيراني و«رصدت لدى الجميع بالأمس اهتماماً بالتعبير عن تفهّم التركيبة اللبنانية، وما من أحد يبغي أو يمكن أن يقبل أو يرغب في إلحاق الضرر بلبنان. وحتى الاشارة الى الحكومة اللبنانية فقد أتت ضمن الاشارة الى المشاركة وليس المقصود بها لبنان ككل».
وكان لافتاً موقف عون خلال استقباله أبو الغيط، إذ أكد أن لبنان «ليس مسؤولاً عن الصراعات العربية أو الاقليمية التي تشهدها بعض الدول العربية، وهو لم يعتدِ على أحد، ولا يجوز بالتالي أن يدفع ثمن هذه الصراعات من استقراره الأمني والسياسي». وأكد «أن لبنان واجه الاعتداءات الإسرائيلية التي تعرض لها منذ العام 1978 وحتى العام 2006 واستطاع تحرير أرضه، فيما الاستهداف الاسرائيلي لا يزال مستمراً ومن حق اللبنانيين أن يقاوموه ويحبطوا مخططاته بكل الوسائل المتاحة»، معتبراً «أن لبنان لا يمكن أن يقبل الإيحاء بأن الحكومة اللبنانية شريكة في أعمال إرهابية، وأن الموقف الذي اتخذه مندوب لبنان الدائم لدى جامعة الدول العربية يعبّر عن إرادة وطنية جامعة».
ولم يحجب كلام عون، الذي كان تلقى مساء أول من أمس اتصالاً من الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرس الذي شدّد «على دعم الاستقرار الأمني والسياسي في لبنان»، الأنظار عن الخطوات التي سيقوم بها في إطار محاولة احتواء الأزمة التي عبّرت عنها استقالة الحريري، وسط معلومات عن أنه بات في أجواء بنود تسوية فرنسية تعمل عليها باريس وتوائم بين حفظ استقرار لبنان وأن ينأى بنفسه عن صراعات المَحاور ومشاركة «حزب الله» فيها.
وفيما وصل سفير المملكة العربية السعودية الجديد لدى لبنان وليد اليعقوب أمس الى بيروت لتسلّم مهامه، واصل الرئيس الحريري في باريس لقاءاته الصامتة قبل عودته الى بيروت بعد زيارة القاهرة على أن يشارك غداً في احتفال الاستقلال، ويقام له استقبال شعبي حاشد من مناصريه يُتوقّع أن يرسم فيه سقف حركته السياسية الجديدة، وسط ملاحظة مصادر سياسية أن تصعيد الموقف العربي والدولي بوجه إيران بعد استقالة الحريري سرعان ما قابلتْه الأخيرة بسقف أعلى عبر وزارة خارجيتها ما اعتُبر مؤشراً على أن طهران ليست بواردِ أي مهادنة.
(الراي)