يَمضي لبنان في محاولة تفكيك الأزمة التي انفجرتْ بوجه الجميع مع «الثورة» المباغتة التي أطاحتْ بحكومة الرئيس سعد الحريري وتشي بتداعياتٍ متدحْرجة على أكثر من صعيد في ظلّ الحاجة إلى تقصير عُمْر فترة تصريف الأعمال من ضمن مسارٍ لم تتعوّد الطبقة السياسية أن يكون لها «شريك مُضارِب» فيه هو الشارع الذي دخل بقوّة على «معادلة القرار» إلى جانب العامل المالي – الاقتصادي الذي صار عنصر ضغط أساسياً للإسراعِ في إحداث «صدمة ثقةٍ» تقي من الانهيار «المدمّر».
وبات واضحاً أن لبنان يقف أمام أيامٍ مفصلية من شأنها أن تُحَدِّدَ وُجْهَةَ الأزمة التي ما زالتْ حاضرةً في الساحاتِ التي لم تَطُلْ فترة «استراحتها» (رغم إعلان الحريري استقالته) والتي يُخْشى أن «تتسلّل» إليها «ألغامٌ تطْييفية» و«أفخاخ أمنية» متعدّدة الهدف، تبدأ بإجهاض الحِراك الشعبي ونسْف جسوره العابرة للطوائف والمناطق والأحزاب وتالياً «فرْملة» أهدافِه «الجَرّارة» التي تشي بقلْبِ كل «قواعد اللعبة» التي تحكم الواقع اللبناني منذ 2005، ولا تنتهي بالاستفادة من «المتاريس المستعادة» لتركيب الحكومة بمعزل عن «وهْج» الانتفاضة وربما لتبرير العودة إلى «تشكيلة سياسية» أو «تكنو – سياسية» أو الاستثمار في «الفراغ» وتكييفه مع أجنداتٍ إقليمية.
ولليوم الثالث بعد لعْب الحريري «ورقة» استقالته التي أتاحت تقديم «الحلّ السياسي» على «الأمني» وسمحتْ له بمعاودة وصْل ما انقطع مع جمهوره، لم يكن ممكناً رسْم كامل ملامح المرحلة المقبلة التي باتت محكومةً بحدّيْن: الأول إيجاد صيغة لحكومة جديدة تحظى بِتوافُقِ الأطراف السياسيين وتوفّق بين حساباتهم، والثاني أن تلقى هذه التشكيلة رضى الشارع، وسط علاماتِ استفهام أطلّت برأسها من خلف التريّث في تحديد الرئيس ميشال عون موعداً للاستشارات النيابية المُلْزمة لتسمية رئيس الحكومة العتيدة والذي قد يمتدّ حتى مطلع الأسبوع، وهو التريّث الذي عاود «إشعال» التحركات الاحتجاجية ابتداءً من مساء الاربعاء، إلى جانب رفْض مناصري زعيم «تيار المستقبل» (الحريري) أن تكون الثورةُ وشعار «كلن يعني كلن» انتهى بإسقاط الحريري أو أن يَقْتصر عليه، في ظلّ مخاوف من خلفياتِ التعاطي الأمني الذي لم يخلُ من مَظاهر قمْعٍ مع تظاهرات ومسيرات تجددّت ليل أول من أمس في مناطق ذات غالبية سنية في البقاع والشمال ما أثار مخاوف من محاولاتٍ لتسييس الحِراك وحرْفه عن مساره واستدراج اصطفافات طائفية.
وفي حين استمرت «إدارة المحركات» خلف الأبواب المقفلة في إطار السعي إلى بلوغ توافق حول «سلّة كاملة» تشتمل على اسم رئيس الحكومة الجديدة وطبيعتها وتوازناتها، لم تتوانَ أوساط سياسية عن اعتبار أنه رغم «انتفاضة» الحريري على التسوية السياسية مع كل من عون و«حزب الله»، وإن على خلفية «عدم القدرة على تَحمُّل (رئيس التيار الوطني الحر) الوزير جبران باسيل»، فإن مَن يحدّد المسار الحاسم للأزمة في لبنان يبقى «حزب الله» الذي باتت لاءاته في ما خص الملف الحكومي واضحة أقله حتى الساعة:
* لا لحكومة تكنوقراط، لأنها ستعني أولاً إخراج «حزب الله» من السلطة السياسية، وتظهير أنه رغم إمساكه بالأكثرية النيابية فهو مضطر للخروج من الحكومة، مع ما يترتّب على ذلك على مستوى الأبعاد الإقليمية للتوازنات في لبنان الذي تجاهر إيران بأنه واحد من الساحات الأربع التي تسيطر عليها في المنطقة، كما على مستوى ترْك الحزب في «عراء سياسي» بمواجهة العقوبات الأميركية.
وثانياً لأن مثل هذه الحكومة تحتّم خروج باسيل (صهر عون)، خطّ الدفاع الأول عن العهد والمرشّح لخلافة الرئيس، وهو ما سيشكّل نكسةً لـ«حزب الله».
* لا لحكومة اللون الواحد التي ستكون بمثابة «حكومة مواجهة» مع المجتمعين العربي والدولي وسيتعامل معها الخارج على أنها حكومة «حزب الله» الصافية، الأمر الذي سيجعل الحزب مكشوفاً أمام العقوبات التي برز الأربعاء، أن دفعة جديدة منها صدرت عبر مركز «استهداف تمويل الإرهاب» وشملت 4 من كوادره بينهم جواد حسن نصرالله (نجل الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله) ومحمد عبدالهادي فرحات (المولود في الكويت)، وسط معلوماتٍ (تلفزيون MTV) عن أن واشنطن كانت بصدد إصدار عقوبات جديدة على شخصيات حليفة للحزب «إلا أنها أجلتها كي لا تفسّر على أنها تتدخل في الشأن اللبناني لتزامنها مع التظاهرات».
وقد علمت «الراي» أن من هؤلاء 3 وزراء في الحكومة المستقيلة.
وبين هاتين «اللاءين» بدا استخلاص صورة واضحة عن اتجاهات التشكيل أمراً بالغ الصعوبة، في ظلّ اعتبار مصادر مطلعة أن أي حكومة تكنو – سياسية (لمّح اليها نائب رئيس البرلمان ايلي الفرزلي القريب من عون و«حزب الله») برئاسة الحريري دونها إمكان قبول الأخير بعودة باسيل الذي يشكّل «الهدف الرقم واحد» للمتظاهرين والذي قال رئيس الحكومة (قبيل استقالته) للمعاون السياسي للأمين العام لـ«حزب الله» حسين خليل، إن المشكلة الرئيسية (أراد الحريري تعديلاً وزارياً جذرياً يهدئ الاحتجاجات) تتمثل في وزير الخارجية «لم أعد أتحمّل ولا أتلقى أي مساعدة وأنتم تدعمون باسيل».
وإذ كانت الكواليس تضجّ بأسماء شخصيات يمكن أن تتولى رئاسة الحكومة بحال لم يتم التوافق مع الحريري وقد يتم اختيارها بالتفاهم معه وبينها وزيرة الداخلية ريا الحسن، حاول عون، الذي وجّه مساء أمس كلمة الى اللبنانيين لمناسبة مرور 3 سنوات على انتخابه وعشية الحشد الشعبي من مناصري «التيار الحر» الذي سيتوجّه الى القصر الأحد دعْماً له، تهدئةَ الاعتراضات في الشارع على تأخيره في بدء الاستشارات النيابية لتكليف رئيس الحكومة العتيدة وسط إعطاء مصادر قريبة منه إشاراتٍ لا تقفل الباب أمام عودة الحريري ولكنها تؤشر إلى تعقيدات في هذا المجال.
وفيما نقلت محطة «او تي في» (التابعة للتيار الحر) عن مصادر رفيعة المستوى، «ان لا احد يضع فيتو على عودة الحريري الى رئاسة الحكومة لكن يجب أن تكون عودته كريمة وهو مرحّب به لكن من دون شروط تعجيزية»، أكدت مصادر القصر الجمهوري أن لا تأخير في الاستشارات الملزمة وأن الحكومة العتيدة تأتي في ظروف استثنائية ويجب إفساح المجال امام الكتل للاتفاق على اسم شخصية لتكليفها، وأن الهدف «ان يتم التكليف والتأليف سريعاً»، وأن عون «سيدعو إلى الاستشارات عندما يرى أنها لن تؤدي إلى شرذمة وضياع واستمرار الفراغ».
وعلى وقع هذه المصاعب، لم يهدأ الشارع الذي استعاد «عصْفه» ليل الأربعاء في طرابلس والشمال والبقاع الغربي والأوسط، مرورا بصيدا فضلاً عن بيروت ما تسبب بتأجيل فتْح المدارس أبوابها. وقد انطبعتْ هذه «الهبة» الشعبية بدخول مناصري «المستقبل» على خطّها رفْضاً لأن يكون الحريري «كبش المحرقة» لوحده وفي محاولةٍ لرسم «خط أحمر» حول أي استبعاد له من رئاسة الحكومة الجديدة، وسط انطباعٍ بأن هذه الاندفاعة أجّجها تأخير الاستشارات وبيان المطارنة الموارنة الذي دعا «للالتفاف حول رئيس الجمهورية».
وحاولت القوى الأمنية أمس، إكمال فتْح الطرق في مناطق الاحتجاجات ولا سيما في البقاع والعبدة (مدخل عكار) وصيدا حيث كانت وقعتْ إشكالات مع الجيش أدت إلى بعض الجرحى، على وقع «غزوة إشاعات» بلغت حد الكلام عن اتجاه لإعلان حال طوارئ، قبل أن تتمدّد التحركات مجدداً إلى مناطق تحوّلت «معاقل» للثورة وبينها «جسر الرينغ»، وجل الديب والزوق (ذات الغالبية المسيحية) حيث جرى قطْع الطرق حتى صباح أمس.
الراي