محمد الرميحي:
مؤلّف وباحث وأستاذ في علم الاجتماع بجامعة الكويت.
على صغر مساحته، فإن لبنان سوف يصبح أول ساحات الاختبار لنتائج الصراع في الشرق الأوسط في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة بين إرادتين؛ (مسيرة تحجيم النفوذ الإيراني)، وهي رغبة أصبحت دولية، ومقاومة إيران للإبقاء على نفوذها. الفرضية تقول إن هناك موقفاً أميركياً معلناً، لتحميل النظام اللبناني ككل، وليس فقط حزب الله أو الجناح العسكري منه، مسؤولية نشر الإرهاب في الشرق الأوسط وما بعده، في سوريا ولبنان والعراق واليمن، بل وحتى في الصحراء الغربية، ودور أساسي في تعطيل قيام الدولة اللبنانية، من جملة مناطق أخرى في العالم، ويقوم بذلك نيابة عن إيران، وبتمويل سخي منها. كما ترى إيران أن نموذج «حزب الله» هو الوصفة الناجحة للتدخل في الجوار، وتعمل على تكراره في مناطق أخرى منها العراق وسوريا واليمن.. تلك الفرضية الأولى.
أما الفرضية الثانية، كما صرح الأمين العام لحزب الله في آخر خطاب له، بأن «على الدولة اللبنانية حماية مواطنيها»، والإشارة هنا إلى تلك القائمة من الأشخاص والشركات التي وضعتهم الولايات المتحدة ودول خليجية على قائمة الإرهاب مؤخراً. وذلك يعني، من وجهة نظر «الحزب»، تحميل الدولة اللبنانية ككل «الدفاع عن متهمين بالإرهاب»! طبعاً في الفرضية الثانية تناقض واضح، فـ«الحزب» يعطل الدولة من جهة، من خلال تصرفه الميليشياوي والتدخل خارج نطاق الدولة، ويريدها في الوقت نفسه أن تحمي منتسبيه على الصعيد الدولي من الملاحقة من جهة أخرى.
قيل في السابق إن الدولة اللبنانية، كما هي، ليست لديها القدرة على أن تحجم سلوك أو تحد من نشاطات «حزب الله»، وإن فكرة «النأي» بالنفس هي اختراع كلامي لبناني، لا يعني شيئاً على أرض الواقع. إلا أن المعادلة بدأت مساراً مختلفاً، فتحميل الدولة اللبنانية، من منظور العالم، نتيجة ما يقوم به «حزب الله» من أفعال، وهو الشريك في الحكومة، يعنى الإشارة بالتحديد إلى مكونين من المكونات السياسية اللبنانية؛ الأول هو حركة أمل، التي حتى الساعة تستفيد من هيمنة حزب الله على المكون الشيعي، إغراءً أو ترهيباً، من أجل أخذ مكان لها في الساحة السياسية اللبنانية، في الوقت الذي تبعد نفسها عن سلوكه ولو نظرياً. هذا الوقوف في المنتصف لم يعد مقبولاً. والمكون الثاني هو التيار الوطني الحر وقياداته، وهي متحكمة في رأس الدولة اليوم، فإن كان مسموحاً لذلك التحالف، في وقت مضى بين الحزب والتيار، كون الأخير في المعارضة، فلم يعد مقبولاً وهو في الحكم الأول، ويدعي تمثيل شريحة واسعة من اللبنانيين، فاستمرار ذلك التحالف لدى الاثنين، يعني حقاً تحميل الدولة اللبنانية نتائج إرهاب الحزب.
قراءة المجتمع الدولي للتحالف بين «أمل»، و«حزب الله» و«التيار» (كل من منظوره الخاص) تترجم إلى أن من هم في الدولة جميعاً في مواجهة العاصفة، فاستمرار ذلك التحالف التكتيكي يأخذ الدولة المفترضة إلى مواجهة مع العالم سياسياً واقتصادياً. وتدخل «حزب الله» في الصراعات الممتدة في المنطقة، نيابة عن مشغله في طهران، يؤدي إلى أن أي تحالف معه يعني في النهاية تغطية لسلوكه غير المقبول! عوامل التعرية السياسية سوف تفعل فعلها في الأشهر المقبلة، كما أنها سوف تضرب الحكومة اللبنانية المترقبة في الصميم، فالجمع بين «حكومة» و«منظمة إرهابية» لم يعد ممكناً من وجهة النظر الدولية، كما أن الطلب من الحكومة العتيدة، كما فعل الأمين العام، أن «تدافع عن مواطنيها» يورطها في مكان إن وافقت عليه، فهي تتماهى مع نوع من الإرهاب محارب دولياً! وإن رفضت توقفت عجلة الدولة عن الدوران! والخاسر الكبير هنا هو الشعب اللبناني.
إذن فشهر العسل المتوقع بعد الانتخابات بين المكونات المتناقضة في لبنان انتهى قبل أن يبدأ! العجيب أن مطالبة الأمين العام، الدولة اللبنانية، بالدفاع عن مواطنيها «المتهمين بالإرهاب» غطاه بالحديث الجانبي عن «محاربة الفساد»، وهل هناك أكثر فساداً من أن تقوم طائفة ما أو بعض طائفة في دولة، بالاعتراف علناً أنها تابعة مباشرة إلى حكومة ودولة أخرى، أم أن الفساد له أشكال محددة ويتجاوز أخرى؟
الإشكال الأكبر الذي يواجه اللبنانيين اليوم أن قيادة حزب الله ليس بوادي تفهم هواجس الأغلبية، فآيديولوجيته تعميه عن تلمس تلك الهواجس، ويريد أن يحتفظ بالكعكة، ويأكلها في الوقت نفسه!
إذن مكان اختبار القوة القادم بين الإرادتين الدولية والإيرانية، سوف تكون الساحة اللبنانية، أو إحدى محطاتها العديدة في المنطقة، ولكن أهمها. وهي أمام مسارين؛ الأول باستطاعة الضغط الدولي المتنامي مع شيء من شجاعة بعض المكونات السياسية اللبنانية، أن يحول «حزب الله» إلى حزب سياسي، من خلال تسليم سلاحه للدولة اللبنانية ممثلة في الجيش الرسمي، ووضع مصادر تمويله تحت رقابة الدولة، كما يجب أن يحدث مع كل الأحزاب، وأمام الرأي العام اللبناني والدولي، ولو تدريجياً، والكف الفوري عن التدخل النشط في المنطقة، ذلك سوف يصب في صالح لبنان واستقرار الدولة اللبنانية. أو يقود، وهو المسار الثاني المعتم، إلى تسلم «حزب الله» ومن سوف يتحالف معه، السلطة في لبنان، والسير بلبنان كله في رفقة الولي الفقيه، وإدارة ظهره، ليس لعروبته فقط، بل وللعالم المتحضر. أما مسار الوسط، أي استمرار تغطية سلوك «حزب الله» في الداخل اللبناني والخارج، وعدم التصدي لما يرتكب من خطايا، فلم يعد مقبولاً دولياً، ويؤسس لدخول كل لبنان إلى القائمة الإرهابية كما هدد العالم أخيراً. وقد يكون الخيار المتاح مبدئياً تخيير «حزب الله» بين الدولة والإرهاب، وهذا العرض لن يأتي، وليس المطلوب أن يأتي من معارضي «حزب الله»، بل من حلفائه، (أمل والتيار الوطني)، لأنهما أول الخاسرين من انزلاق الدولة اللبنانية إلى الفوضى، أو ما بقي منها، والتخندق خلف الستار الحديدي الجديد ولاية الفقيه والإرهاب العالمي!
بالنسبة لحلفاء «حزب الله» المأزق واضح المعالم، ولن يستر ذلك المأزق الكلام المنمق، فلم تعد المواجهة محلية، بل أصبحت دولية بامتياز. بقي خيار «حزب الله» المتاح وهو ذو طريقين؛ إما الإرهاب (يسميه «حزب الله» تمويهاً المقاومة) وإما الانخراط في مسار واضح نهايته تقليص نفوذ إيران، ومن ثم التخلص منه. جمع الاثنين معاً، وأخذ لبنان رهينة تحت تهديد السلاح الداخلي، يغامر بوضع الدولة على قائمة الدول الفاشلة، وقد جاء الوقت ليختار اللبنانيون خيارهم الاستراتيجي!
آخر الكلام:
بين ترسي مطالب «حزب الله» من الدولة اللبنانية والاستحقاقات الدولية «يُهرس» الشعب اللبناني وتهدد العملة الوطنية بالانهيار!