يخطئ مَن يظن أن أحداً في لبنان يمكنه رسْم السيناريو الأوْفر حظاً للخروجِ من قعْر المأزق السياسي – الدستوري وتَفادي المجهول الذي يلوح في الأفق. وحده الغموض هو الأكثر وضوحاً في مقاربة الطريق إما إلى التسوية وإما إلى الهاوية. وما الأيام الفاصلة عن «موت» البرلمان في 20 يونيو المقبل سوى الأمتار الأخيرة في حربٍ سياسيةٍ ضروس تدور على طريقة «يا قاتل يا مقتول»، الأمر الذي يجعل ملحّاً ومحورياً طرْح سؤال: هل ينجو لبنان عبر تَفاهُم «الخمس دقائق الأخيرة» أم ينزلق إلى المجهول وكأن «ما كُتب قد كُتب»؟
فالأكثر إثارة في لبنان اليوم هو أن معركة قانون الانتخاب، التي تتعدّد أوصافها، من شرسة ومصيرية الى مفصلية ووجودية، تحوّلت احتراباً بكل شيء وحول كل شيء، سياسة وطوائف وغلَبة وأرجحيات وسُلْطة وإقليم وبزنس ورئاسة، وسط شهياتٍ مفتوحة تعكسها قوانين انتخاب بنتائج محسومة سلفاً، «نائباً نائباً»، في لعبةٍ تديرها رؤوسٌ حامية وتشبه «صراع الفيلة» بين مشاريع من النوع الذي يُضمِر انتصاراتٍ كاملة في بلادٍ غالباً ما كانت تذهب الى التوترات والثورات والحروب كلّما غادرتْ مُعادَلتَها الذهبية «لا غالب ولا مغلوب».
فرغم الغبار الكثيف الناجم عن التطاحُن حول قانون الانتخاب، فإن المعطيات تشي بأن إدارة اللاعبين للمعركة ترجّح صعوبة بلوغ توافُقٍ وطني حول صيغةٍ مقبولة قبل سقوط البرلمان في الفراغ، وتالياً المضي في مأزقٍ لا قعر له، الأمر الذي ينطوي على الخشية من «استدعاء» حرب لاقتياد الجميع إلى حلٍّ بشروط الأقوى، وخصوصاً أن الصراع على السلطة في لبنان، الذي يبلغ أوجه الآن عبر المنازلة الدائرة حول قانون الانتخاب، يرتبط بصراعٍ أعمّ في المنطقة المشتعلة بحربٍ بين القاطرتيْن السعودية والايرانية وحلفائهما.
وفي الترجمة السياسية للتواريخ والآليات والصيغ المتّصلة بالانتخابات النيابية، كالجلسة التشريعية التي كانت مقرَّرة في 15 الجاري لـ «تمديدٍ استباقي» للبرلمان، والحاجة الى اتفاقٍ على قانونِ انتخابٍ قبل نهاية ولاية البرلمان في 20 المقبل، والفراغ الذي قد يدبّ في «أمّ المؤسسات» بعد هذا التاريخ، فإن المعركة الدائرة استنفدت المعايير التقنية في تركيبِ صيغ قوانين الانتخاب، لتتحوّل معركةَ خياراتٍ على المسرح السياسي، الطائفي، أهمّ العلامات الفارقة فيها يمكن رصْده على النحو الآتي:
• تعاطي الثنائي المسيحي («التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية») مع معركة قانون الانتخاب حالياً بـ «مفعولٍ رجعي» يعود الى تطبيق النسخة السورية من اتفاق الطائف في العام 1992، واعتبار وجود العماد ميشال عون على رأس السلطة فرصةً ثمينة لا يمكن التفريط بها لمعاودة «تصحيح التمثيل المسيحي» في البرلمان، أي أن هذا الثنائي بقيادة وزير الخارجية جبران باسيل يَستخدم كل ما أمكنه من «أسلحة» للفوز بأكبر قدر من حصة المسيحيين (64 نائباً)، مما يتيح له الإمساك بالثلث المعطّل في البرلمان والتحكم بمسار انتخابات الرئاسة المقبلة.
• إدارة الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل بزعامة رئيس البرلمان نبيه بري) معركة قانون الانتخاب على طريقة الفرصة التي كانت أينعت وحان قطافها الآن عبر فائض القوة وتَضخُّم الدور، وتالياً فإن هذه المسألة تضاهي ما يشبه المعارك الوجودية بالنسبة إلى الثنائي الشيعي الذي يريد قانون انتخابٍ يتيح له قيادة تَحالُف يمكّنه من التحكّم بمفاصل السلطة وبالتموْضع الإقليمي للبنان.
وبين مشروعيْ «الحد الأقصى» المسيحي والشيعي، يقف زعيم التيار السني الأبرز رئيس الحكومة سعد الحريري في المنطقة الوسط ما جعله يرسي «توازناً سلبياً» بين استحالتيْن وكأنه لا يريد انكسار إحداهما إفساحاً أمام تسويةٍ ما. فالحريري رفَع لا للتمديد بوجه الثنائي الشيعي، ولا مماثِلة للاحتكام الى التصويت على قانون الانتخاب في مجلس الوزراء بوجه الثنائي المسيحي، وتالياً فإنه حرَم الطرفيْن أسلحة كاسرة للتوازن يمكن استخدامها لفرْض وقائع تشي بمنتصرين ومهزومين، لكن من دون القدرة على الدفع في اتجاه تسوية تقطع الطريق على صِدام الثنائيتين.
ومَن يدقق في الكلام الذي ينطوي على استياء مضمر من دور الحريري يَكتشف أن حساسية موقفه لا ترتبط بالتوازن السلبي الذي أرساه، بل لأنه عطّل إمكان الوصول الى ما يمكن وصْفه بالتفاهُم السني – الشيعي على صفقةٍ تتناول قانون الانتخاب يجري فرْضها على الآخرين الذين لا يملكون القدرة على إسقاطها، الأمر الذي شكّل «خاصرة رخوة» للثنائي الشيعي في المعركة الشرسة التي يخوضها لليّ ذراع الثنائي المسيحي.
وثمة مَن يعتقد في بيروت أن الحريري الذي أطفأ محركات صراعه مع «حزب الله» وفَتَح قنوات حوارٍ دائمة معه ويستضيف المعاون السياسي لأمينه العام حسين خليل في دارته في وسط بيروت، لا يمكنه الذهاب أبعد كالانخراط في صفقةٍ مع الحزب حيال قانون الانتخاب تكون على حساب الآخرين. ومَن استمع لمواقف ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حيال ايران يكتشف أن لـ «المرونة» حدوداً في بيروت.
فمن الصعب في رأي هؤلاء عزْل لبنان عن وهج ما يجري في المنطقة بدليل التحذيرات التي أطلقها الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، وانطوت على ارتيابٍ مكتوم من تحضيراتٍ لـ «حربٍ ناعمة» وربما خشنة ضدّ «حزب الله» كأحد الأذرع الإيرانية في المواجهة المتصاعدة في المنطقة.
ففي تقدير أوساط مُراقِبة ان «حزب الله» متوجّس من حلقة الجنرالات التي تحوط الرئيس الاميركي دونالد ترامب وخياراتهم إزاء المنطقة، ومن تناغُم «الكمّاشة» السعودية – الاردنية – التركية مع تلك الخيارات الهادفة الى محاصرة نفوذ إيران في المنطقة وإبعاده، وتالياً فإنه سيمضي في تَشدُّده حيال الحلول المطروحة في بيروت.
وفي اعتقاد هذه الأوساط أن «حزب الله» لا يَستبعد محاصرته وربما شنّ الحرب عليه من اسرائيل التي تنفّستْ الصعداء مع الملامح الاستراتيجية لسياسة دونالد ترامب حيال المنطقة، أو من على الجبهات السورية ومطاردته حتى في لبنان.
(الراي)