دَخَلَ لبنان مدار عيديْ الميلاد ورأس السنة اللذين يحلّان مُثْقَلَيْن بـ «كوابيس» أخذتْ مداها في 2019 في ظلّ ما يشبه «موتَ» الاقتصاد بفعل انهيارٍ مالي لم تعرف البلاد في تاريخها مثيلاً له ويُنْذِر بـ «آتٍ أعظم»، وانكشاف الواقع السياسي على أزمةٍ غير مسبوقة بعدما رفعتْ «ثورةُ 17 اكتوبر» البطاقةَ الحمراء بوجه السلطة الحاكمة التي تَمْضي في لعبةِ «امتصاص الصدمات» المتوالية في الشارع سواء بمحاولاتِ تغليف الحكومة العتيدة بما يسْحب فتائل الصِدامات مع الخارج وفي الداخل، أو بـ «دسّ السم» الطائفي في «دم» الانتفاضة لحرْفها عن مسارها وحرْق طابعها العابر للتقسيمات والترسيمات الطائفية.
وليس عابِراً أن العيدَ الذي «لم تَقْوَ» عليه في لبنان مرةً «حِراب» الاقتتال الداخلي ولا حروب اسرائيل عليه ولا التحديات على أنواعها، يطلّ برأسه هذه السنة في «العتمة» وقد نكّس أنوارَه وزينتَه وكَتَم صوتَ الفرح وأجراسَه بعدما بات شبحُ «المجاعة» نجمَ الأسابيع الأخيرة مع تَعاظُم عوارض السقوط المالي الذي يشي بحصارٍ يستنزف «الأمنَ الغذائي» للبنانيين بفعل القيود المفروضة من المصارف على التحويلات إلى الخارج وتأثُّر «جسر المراسَلة» الحيوي للاستيراد بالتخفيضات المتتالية للتصنيف الائتماني لـ «بلاد الأرز» واستطراداً قطاعها المصرفي.
وحتى النجاح الصعب في استيلاد الرئيس المكلف حسان دياب حكومة ما بعد الانتفاضة المستمرة منذ 69 يوماً لن يكون كافياً لمحو صورة «لبنان الكئيب» الذي يستعدّ لـ «التسليم والتسلّم» بين 2019 و 2020 وسط إدراكٍ كاملٍ أن السنة الجديدة ستكون بمثابة الباب إلى «عيْن العاصفة» المالية – الاقتصادية التي ستوضع البلاد فيها ولا سيما بحال جاءت إدارة ملف تأليف الحكومة بذهنية تستدرج المزيد من «عصْف» الاعتراضات: أولاً في الداخل «المتأهِّب» رفْضاً لدياب وتشكيكاً بقدرته على «خلْع جلده» كونه جزءاً من المنظومة السياسية ووصَل «على حصان» جناحها الأكثريّ (تحالف فريق رئيس الجمهورية ميشال عون والثنائي الشيعي «حزب الله» وحركة «أمل»)، وثانياً من الخارج الذي يراقب عن كثب مواصفات الحكومة المنتظَرة ومدى ضمور الحضور الحزبي فيها وجدّيتها في إطلاقِ مسارِ الإصلاحات الشَرْطية لتقديم «طوق النجاة» من السقوط المريع.
وتعْكس حالُ «عمى الألوان» التي تسود بيروت بإزاء الملف الحكومي ومآلاته دقة المرحلة التي تمرّ بها البلاد، حيث صار دياب بين «فكّيْ كماشة» الاعتراضٍ المتنامي في البيئة السنية على «تعيينه» من الثنائي المسيحي – الشيعي قافزاً فوق رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري (الأكثر تمثيلاً) ورغبة دار الفتوى التي شهدت عصر أمس تحركاً كبيراً أمامها رفْضاً لـ «كسْر الطائفة» عبر خيار دياب من جهةٍ، وعدم تسليم الشارع المنتفض بـ «استقلاليته» التي تؤهله الوصول الى حكومة اختصاصيين مستقلّين يريدها الثوار تمهيداً لانتخابات نيابية مبكرة من جهة أخرى.
وإذا كان دياب حَسَم أمره بأنه ماضٍ في تولّي هذه المهمة الشائكة بمعزل عن «بقعة زيت» الاعتراضات ومهما تمدَّدت، فإن الأوساطَ السياسية في بيروت ما زالت منهمكةً في محاولة «فك شيفرة» الالتباس الكبير الذي يشكّله ثبات دياب عند التعهّد بتشكيلةٍ من اختصاصيين مستقلين، كان أرادَها الحريري ولكن رَفَضَها تحالف فريق عون – الثنائي الشيعي، وإطلاق «حزب الله» إشاراتٍ متواصلة و«حمّالة أوجه» حيال رغبته بحكومةٍ بأوسع تمثيل «ومشاركة واسعة من الجميع» و«تحظى بغطاء سياسي» على ما أعلن أمس الوزير محمد فنيش.
وفي رأي مصادر مطلعة أن «تكليف اللون الواحد» لدياب الذي يجعله رئيساً في صلب محور حلفاء إيران، يطرح أمام «حزب الله» خياراتٍ متدرّجة لـ «حياكة» مسارب «تحمي» النقلة ذات البُعد الاستراتيجي التي قام بها عبر ممارسة أكثريته البرلمانية لإمساكه برئاسة الوزراء في غمرة الصراع الأميركي – الإيراني، وبما أتاح له حصْد نقاط ثمينة في الوضع الداخلي ليس أقلّها تحقيق خطوة إضافية على طريق «اجتثاث الحريرية السياسية» التي ما زالت في رمزيّتها عنوان التوازن الداخلي ببُعده الاقليمي، في امتدادٍ لـ «انقلاب 2011» على حكومة الحريري وما سبقه من عمليات تطويعٍ للوقائع الداخلية وقضْم التوازنات واتفاق الطائف.
وإذ اعتبرت هذه المصادر أن «الضربةَ» التي سدّدها «حزب الله» داخلياً بـ «قفازاتٍ» مسيحية (بعدما قَطَع رفْض عون و«القوات اللبنانية» تسمية الحريري ولو كلٌ لاعتباراته الطريقَ على عودته لرئاسة الحكومة) أظهرتْه وكأنه يدفع من الخلف «الانقلاب الناعم»، لاحظتْ أن الدخول الإيراني القوي على خط مباركة تكليف دياب يعكس الجانبَ الاقليمي في مجمل ما شهده لبنان في الأيام الأخيرة، علماً أن طهران هي اول عاصمة ترحّب بهذا التكليف في شكل علني وواضح ومع إحداثِ «ربْط نزاع» هجومي بالِغ الدلالات مع السعودية، ومع تحييد لافت للولايات المتحدة، وذلك من ضمن ملامح اندفاعةٍ متشددة لـ «حماية خيار دياب».
فقد أعلن مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي في حديث لقناة «روسيا اليوم» أن «التظاهرات المتواصلة في لبنان بعد تكليف حسان دياب بتشكيل الحكومة الجديدة تتم بتحريض من السعودية وإسرائيل»، معرباً عن ترحيب طهران بتكليف دياب، مؤكداً «أننا نحترم أي قرار يتخذه الشعب اللبناني»، ومبدياً اقتناعه بـ «أن المظاهرات في لبنان ستتضاءل وتنتهي مع تشكيل الحكومة وتحقيق مَطالب الشعب اللبناني».
وترك موقف ولايتي علامات استفهام حول إذا كان سينعكس على خيارات «حزب الله» حيال الحكومة الجديدة والتي ترى المصادر المطلعة أنها تراوح بين حدّيْن: الأول محاولة توفير أوسع مظلة سياسية عبر إشراك أحزاب من خارج تحالف عون – «حزب الله» ولو عبر تسمية اخصائيين وذلك بما ينزع عن الحكومة صفة حكومة اللون الواحد التي «يكمن» لها المجتمع الدولي. والثاني بحال عدم تأمين النصاب السياسي لمثل هذه التشكيلة الذهاب نحو حكومة الاختصاصيين المستقلين، فتكون بمثابة حكومة الأكثرية بـ «قِناع» التكنوقراط بما يقلّل من إمكان تحويلها «كيس ملاكمة» في الداخل وللخارج.
وفي غمرة هذه الحسابات الدقيقية، كان لافتاً حرص الرئيس سعد الحريري وللمرة الأولى على النفي وعلناً وجود أي غطاء منه لتكليف دياب، الأمر الذي بدا في جانب منه بمثابة ردّ على ملامح «ترغيب وترهيب» من قريبين من «حزب الله» لزعيم «المستقبل» انطلاقاً من الإشارات التي برزت حيال حرصه على حفظ «خط الرجعة» في العلاقة مع الثنائي الشيعي.
فبعد كلام وزير «حزب الله» محمود قماطي عن ان تسمية دياب «جاءت بعد موافقة واضحة وصريحة من الرئيس الحريري وبعد نيل دعمه ووعده بالمساعدة في تسهيل التأليف ومنح الحكومة الثقة»، أوضح المكتب الإعلامي للأخير أنّ صحيفة أنّ «المعلومات المنسوبة إلى القماطي غير صحيحة على الإطلاق، وهي لو صحت فليس هناك ما كان يمنع الرئيس الحريري وكتلة تيار المستقبل من التسمية أو الموافقة على المشاركة في الحكومة وهو ما لم ولن يحصل».
الراي