هل ستنجح الحكومة اللبنانية في توفير «هبوطٍ آمن» للموازنة التقشفية وإجراءاتها المؤلمة التي يُعمل عليها، أم أن «كرة النار» المالية – الاقتصادية ستتدحرج في الشارع الذي بات مستنفَراً لـ«انتفاضةٍ» من بوابة الأفكار المتداوَلة حول إمكانِ خفْض رواتب القطاع العام (مدنيين وعسكريين) أو المساس ببعض التقديمات الاجتماعية والبدلات ومعاشات التقاعد؟
سؤالٌ بدأ كأن «لا صوت يعلو فوق صوته» في لبنان الذي «لم يعد يَحْكي» إلا اقتصادا ومالا وسط انطباعٍ مكتوم بأن البلاد دخلتْ في ما يشبه «الانهيار المُقَنَّع» الذي تحاول الحكومةُ تَدارُكه عبر التقاط «حبل النجاة» الذي يشكّله مؤتمر «سيدر 1» والذي تمرّ الاستفادة من مخصصاته (نحو 11 مليار دولار) بإصلاحاتٍ ضرورية بدأت بإقرار خطة الكهرباء ويتعيّن استكمالُها في مشروع موازنة 2019 التي «ستكون الأكثر تَقشُّفاً بأرقامها في تاريخ لبنان».
وبدا واضحاً أن الحكومة وأطرافها الرئيسيين يَمْضون في رسْم «المسْرح» المالي الخطير الذي يظلّل مناقشات مشروع الموازنة في مقابل استمرار موظّفي القطاع العام في محاولة تكريس «خطوط حمر» أمام أي مساس بحقوقهم ملوّحين بأنهم سيواجهون «باللحم الحيّ» أي منحى للاقتطاع منها، الأمر الذي يجعل اللجوء إلى «المبضع» في مسار الإنقاذ المالي – الاقتصادي محكوماً بمحاذرة أي «جرعة زائدة» في الإجراءات الموجِعة يمكن أن تفجّر الشارع الذي رفع «العصا» تحسُّباً لحلولٍ «من جيْبه».
ولم يكن أدلّ على هذه المعادلة الخطيرة من أمريْن ارتسما بوضوح أمس:
● الأوّل تصريحاتٌ مباشرة حول «الكارثة» التي تقف على الأبواب بحال لم تُتَّخَذ الإجراءات الصعبة ذات الصلة بالإصلاحات وفق ما عبّر رئيس الحكومة سعد الحريري بعد الجلسة التشريعية للبرلمان، مُسْتحْضِراً نموذجيْ اليونان والأرجنتين ولكن مع فارق «إذا أصابتْنا المصيبة فمن سيُنقِذنا»، بعدما كان قال خلال الجلسة رداً على كلام النائبة بولا يعقوبيان التي دعت للوقوف دقيقة صمت عن روح الدولة إنه «إذا لم نتخذ الإجراءات المطلوبة فسنصل إلى هذا اليوم».
وفي سياق غير بعيد نُقل عن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع «ان مسألة اليونان تحتاج الى بضعة أسابيع كي تصل الى لبنان ونحن نعمل وبجدية لكن يجب أن ننتظر 7 أو 8 أشهر لنرى الخطوات عملياً»، مكرّراً «أن الأزمة الحالية لا تحل بالشعبوية، بل يجب ان نتحلى بالمسؤولية، بغض النظر عن البحث عمن هو المسؤول، وبالتالي علينا ان نعمل كي لا نصبح في قعر الهاوية».
● والثاني الحِراك التصاعُدي في الشارع، الذي بدأ مع العسكريين المتقاعدين على شكل تجمعات وقطع طرق «تحذيرياً» بالإطارات المشتعلة في مختلف المناطق (الثلاثاء) واستُكمل أمس بالإضراب العام الذي نُفذ بدعوة من هيئة التنسيق النقابية في الإدارات العامة وفي المدارس الرسمية والخاصة والبلديات (واحتجبت معه الوكالة الوطنية للإعلام الرسمية عن تغطية أي أخبار غير الإضراب) وذلك اعتراضاً على أي مساس بالرواتب والأجور ورفضاً لتخفيضها، وهو ما ترافق مع اعتصام مركزي في ساحة رياض الصلح في وسط بيروت بمشاركة بعض النواب وتخللته كلمات حذرت من «انتفاضة اجتماعية (…) اذا لم تتراجعوا عن تفكيركم الخاطئ».
وفي موازاة ذلك، تحاول الحكومة احتواء الصخب الذي أحدثتْه تسريبات المناقشات حول مشروع الموازنة وما يمكن أن يتضمّنه، وسط تسريبات مضادة بأن أيّ تخفيضاتٍ للرواتب لن تمسّ إلا الرواتب العالية ولن تكون بحال اعتمادها إلا على النسب والشطور، وأن أي تجميد بنسبة 10 أو 15 في المئة من الرواتب سيكون محدداً بفترة زمنية من سنتين على أن يعاد العمل بها بعدها ودفْعها مقسّطة.
وسعى الحريري، الذي يستعدّ لمغادرة لبنان في زيارة خاصة بعدما أرجئت جلسة مجلس الوزراء التي كانت مقرَّرة اليوم، إلى ترْك الباب مفتوحاً أمام خياراتٍ صعبة «لا تمس بذوي الدخل المحدود، لكن علينا انجاز اصلاح حقيقي ويجب أن يكون على حساب الإنفاق في الإدارة اللبنانية».
وأضاف: «لا أقول إننا سنخصم من رواتب كل الفئات ولكن علينا أن نصارح الناس، فبعد سنة إن وقعت الكارثة الاقتصادية ماذا نفعل»؟ موضحاً ان ما يُحكى في الإعلام «هو مناقشات»، ومتحدثاً عن مخصصات يمكن بحْث وقفها مثل بدلات سفر ومفروشات وسيارة وبنزين او إجراءات لسنة او سنتين، مؤكداً «هذا نقاش وقد نكتشف خلال المناقشات أننا يمكن ان نخفض من مكان آخر»، ومشيراً إلى أن «المزايدة لا ولن تفيد أحداً لأن البلد إذا سقط فسنقع كلنا معه».
وفي موازاة ذلك تمسّك وزير الخارجية جبران باسيل الذي كان أوّل من أثار موضوع خفض الرواتب، بموقفه معلناً «قلت ما قلته عن موضوع الرواتب وهذا الأمر يتطلّب صراحة وجرأة ومسؤولية وطنية (…)». وأضاف: «بعض الاعلام والسياسيين اجتزأ ما قلته في موضوع رواتب القطاع العام (…) وأنا أتكلم عن موقفي وأحترم خصوصية المداولات، وعندما يحين وقت فضح مواقف كل الأفرقاء، سأتكلّم».
الراي