سام منسى:
منذ اندلاع الانتفاضة اللبنانية في 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، يطرح المراقبون السؤال بشأن موقع لبنان في استراتيجيات الدول الكبرى، لا سيما في ظل ما جسدته من غضب عارم وعابر للطوائف والمناطق من جهة، وما استدعته من تجاهل السلطة لحجمها ودلالتها من جهة أخرى، وإمعانها في ممارسات أقل ما توصف به أنها مستفزة لغالبية اللبنانيين التي ملأت الشوارع والساحات على مساحة البلاد.
ولعل الأكثر فجاجة بين هذه الممارسات، هي الأجواء التي أحاطت عملية تشكيل الحكومة، بدءاً من تأخير الاستشارات النيابية الملزمة، وتأليف الحكومة قبل تكليف الرئيس العتيد، وفرض برنامج عملها عليها، بما يخالف الدستور والأعراف والتوازنات في البلد.
إن مراجعة للمواقف الدولية قد تساعد الانتفاضة في لبنان على الاستمرار في المواجهة وعدم التراجع، وتحفزها للانتقال إلى مواقف ومراحل أكثر تقدماً.
لا يخفى على أحد أن المرحلة الحالية التي يجتازها لبنان هي مصيرية، والأكثر دقة منذ تحفيز التمدد الإيراني في الإقليم، إثر انهيار النظام البعثي في العراق عام 2003، واندلاع الثورة في سوريا عام 2011.
بات لبنان في عين الأعاصير، وتقلبت المواقف الدولية والإقليمية تجاهه، بسبب جموح النفوذ الإيراني فيه إلى مستوى من الخطورة، هدّد معنى وجوده، عبر إطاحته بقيم الديمقراطية التي عهدها، والتوازن بين مكوناته، والحياد الإيجابي الذي ميز سياسته الخارجية، وكلها عوامل ساهمت في إرساء فترات من الاستقرار وحتى الرفاهية.
اليوم، لم تعد القوى الدولية والإقليمية تعنى بلبنان إلا من منظور مصالحها، في صراعها الدائر مع إيران، وكيفية لجم نفوذها في المنطقة. ولا يمكننا في هذا الإطار إلا مراجعة المواقف الدولية والإقليمية من الانتفاضة اللبنانية، وتالياً من ممارسات السلطة الحاكمة بثنائيتها الشيعية وغطائها المسيحي، وما قد تتركه من ذيول على النظام اللبناني، وحتى على الكيان.
في الواقع، السؤال حول المواقف الدولية والإقليمية من الانتفاضة يطرح كثيراً من الإشكاليات: هل القوى الدولية والإقليمية مهتمة بالانتفاضة؟ هل مثل هذا الاهتمام يصب في مصلحة الانتفاضة ويساعدها، أم أنه يحمل في طياته مخاطر قد تهدد استمراريتها ونجاحها؟ وفي الحالتين، ما موقف القوى الدولية والإقليمية من ردود فعل السلطة الحاكمة إزاء الانتفاضة، وإزاء إدارة الأزمة الحكومية والأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية؟
واشنطن تنظر إلى لبنان على أنه دائرة من دوائر المواجهة مع النظام الإيراني. فالعقوبات القصوى على طهران لا تنفصل عن العقوبات المفروضة على «حزب الله» في لبنان، ويقتضي إضعاف نظام الملالي إضعاف تمدُّدِه وأذرعه الميليشياوية المرتبطة به عضوياً وآيديولوجياً.
من الواضح أن واشنطن تخلَّت عن الخيار العسكري في المنطقة، أقله مرحلياً، ومالت إلى خيار تعزيز انتشارها العسكري في الخليج.
وعلاوة على ذلك، تعتمد الولايات المتحدة خطة تعرية النظام الإيراني من شرعيته السياسية والدينية على حد سواء، عبر توزيع صور المجازر المرتكبة بحق المحتجين من الشعب الإيراني، ومعلومات حول مئات القتلى وآلاف المعتقلين، بهدف إسقاط القناع الديني والأخلاقي عن نظام موغل في الوحشية والاستبداد.
مهما يكن، يبقى أن ساعة صبر الاستراتيجية الأميركية في المنطقة تدق ببطء، بينما ساعة الصبر اللبناني تدق بسرعة.
أما روسيا، فهي تسعى دون كلل إلى ملء فراغات أميركية لاسترجاع دورها التقليدي في الشرق الأوسط، وتمكين دورها المستجد في سوريا وإلى حد ما في العراق، وذلك عبر تواصل حثيث مع أطراف سياسية في لبنان على أكثر من مستوى رسمي وقيادي، وحتى مع الانتفاضة، وبالطبع مع «حزب الله»، علها تتسلل إلى قطاعات لبنانية لا تزال بعيدة عنها، مثل تسليح الجيش اللبناني، وبعد أن وصلت إلى صفقات التنقيب عن النفط والغاز. الاستراتيجية الروسية – إذا صح التعبير – تلتفت إلى موقع متقدم في القرار اللبناني، بما يكمل وجودها ودورها في سوريا وتحالفها الموضوعي المصلحي مع إيران.
وتدرك الدبلوماسية الروسية الهواجس اللبنانية حيال دور إيران وطموحاتها في هذا البلد، كما تلعب على حرج أصدقاء أميركا التقليديين من مواقف إدارة الرئيس دونالد ترمب المتقلبة وسياسته المترددة، إضافة إلى دعمه الأعمى للسياسات الإسرائيلية.
إنما هل روسيا قادرة على لعب دور إنقاذي في لبنان، وفرض نفسها كشريك يمكنه المقايضة مع إدارة ترمب، وحتى التساكن مع الأميركيين، كما هو حاصل مع القاعدة الجوية في القامشلي، غير البعيدة عن الانتشار الأميركي، كما مع قاعدة حميميم والوجود الأميركي في قاعدة حامات في لبنان؟
على الرغم من كل ذلك، لن تقدم روسيا على أي تسوية لا ترضي «حزب الله»، وذلك لأسباب أبعد من لبنان وأكثر أهمية لموسكو، إنما تستمر في الوقت عينه في الإعلان عن تجاوبها مع مطالب الانتفاضة، بينما تبقي دعمها للسلطة الحاكمة وتواصلها معها، تاركة بابَي رئاسة الجمهورية و«التيار الوطني» مفتوحين أمامها.
أما في المواقف الأوروبية، فما يرشح عنها لا يشجع؛ لأنه يشير إلى نوع من الرضا على مواقف محور السلطة، إن لم نقل تشجيعاً لها، حول المضي مرة أخرى في تشكيل حكومة كما يريدها «حزب الله» شكلاً وأعضاء، متجاهلة انتفاضة شعبية غير مسبوقة في تاريخ هذا البلد الصغير.
أما الصمت العربي، فالبعض يعزوه إلى الرغبة في عدم إحراج الانتفاضة وتركها تأخذ مداها، بينما يعتبره آخرون نتيجة لنفض يد الدول العربية من لبنان واللبنانيين. قد تصح كلتا النظريتين، ولكن مهما يكن، يصح وصف الموقف العربي من الأحداث اللبنانية في شقيها الانتفاضي والسلطوي، بأنه موقف مراقب أكثر منه موقفاً منخرطاً. وينظر إلى لبنان من عدسة المواجهات الاستراتيجية المتعددة الأهداف التي يخوضها في الإقليم. لا يمكننا تناسي الأوضاع غير المستقرة التي تمر بها أكثر من دولة عربية، إضافة إلى التهديدات الإقليمية الخارجية التي تواجهها، ما يجعل جل اهتمامها مصبوباً على حماية أمنها الداخلي والخارجي.
فهل تخلت واشنطن وباريس، لا سيما الرئيس إيمانويل ماكرون، ولندن، والعرب معاً، عن عودة الرئيس الحريري إلى السراي؟ والمقصود هنا قد لا يكون التخلي عن شخص الرئيس الحريري بقدر ما هو تخلٍّ عن دور الطائفة السنية اللبنانية الوازن في الكيان من جهة، ومصير الانتفاضة الشعبية المطلبية من جهة أخرى.
فهل بات ضرب عرض الحائط باتفاق الطائف والدستور أمراً سهلاً؟
وهل هذه المواقف هي نتيجة لانحسار النفوذ الغربي وتراجعه أمام إيران واستعادة روسيا دورها فقط، أم أنها نتيجة لفشل القوى المناهضة لمحور إيران في لبنان والمنطقة في جذب الدعم الدولي والإقليمي لمواجهته ومواجهة أذرعته، وعلى رأسهم «حزب الله»؟
إن المواقف الدولية والإقليمية الباهتة من الانتفاضة الشعبية تبعث على الخشية؛ لأنها تترك أداء السلطة وممارساتها على غاربها، وقد تصل الأمور في لبنان لتحاكي ما تتعرض له الانتفاضة الشعبية في العراق من قمع وحشي من السلطة ومن وراءها من الأدوات الإيرانية المنتشرة والمتجذرة في غالبية المناطق العراقية.
الخشية اليوم من أن يكون صاحب القرار في مواجهة الاحتجاجات في بداية الحرب السورية والاحتجاجات اليوم في العراق، هو نفسه صاحب القرار في مصير الانتفاضة الشعبية المندلعة في لبنان.