التقطتْ الأسواقُ الماليةُ في بيروت أنفاسَها أمس مع «العمليةِ الجراحيةِ» التي تَولّاها مصرف لبنان المركزي في سياق احتواء أزمة شحّ الدولار عبر اعتماد آليةٍ مع المصارف لتوفير «العملة الخضراء» بسعر الصرف الرسمي لاستيراد المشتقات النفطية والقمح والأدوية، فيما كانت التشظياتُ السياسيةُ لهذه الأزمة، التي ولّدت احتجاجاتٍ في الشارع يوم الأحد بدتْ أقرب إلى «بروفةِ انفجارٍ»، تعتملُ علناً وفي الكواليس تاركةً علاماتِ استفهامٍ حول المرحلة المقبلة على أكثر من صعيد.
وفي حين كان «الدخولُ الاضطراري» لـ «المركزي» على خطّ احتواء أوّل مَظاهر «تَفَشي» الأزمة المالية – الاقتصادية التي تعانيها البلاد يتركُ تفاعلاتٍ إيجابيةً سواء على صعيد ارتفاع سندات لبنان الدولارية، أو لجهة انخفاض سعر تَداوُل الدولار في سوق الصيرفة إلى ما بين 1520 و1540 ليرة (بعدما كان بَلَغ 1630 ليرة)، فإنّ المعالجةَ الموْضعيةَ لنقْص السيولةِ بـ «العملة الصعبة» وما عبّرت عنه من ظهورِ ما يشبه «الدولار الاجتماعي» (في موازاة الدولار التجاري) لم تفرْمل خشيةَ أوساطٍ مطلعة من ارتداداتٍ متدحْرجة لوقائع الأيام الأخيرة، وذلك في ضوء بدء قطاعاتٍ تجاريةٍ بمطالبة مصرف لبنان بـ «المعاملة بالمثل» لجهة توفير الدولار لكافة السلع، وارتسام عامليْن يمكن أن يشكّلا عنصريْ تأزُّم كبيريْن ما لم يتم وضْع ضوابط سريعة لهما:
الأول السعي الى «تغليفِ» شحِّ الدولار بما هو تعبيرٌ عن «الأزمة الأمّ» المالية التي تصارِع البلاد لـ «النفاذ» منها، وما تَسبّب به من بلبلةٍ في الأسواق وصولاً إلى ما رافق التحرك في الشارع الأحد من مَظاهر شغب، بطابعِ «المؤامرة» على عهد الرئيس ميشال عون، في موازاة محاولةِ وضْعِ «كواتم» للأزمة أثارتْ خشيةً من أن تكون في إطارٍ أقرب إما إلى «حال نكرانٍ» لحقيقة الواقع المأزوم، أو في سياق تضخُّم «الحرب الباردة» حول «الحق على مَن» في ما آل اليه الوضع في لبنان، وسط مخاوف من أن ينزلق الأمر إلى مسألة حريات أو أن يفتح الباب أمام فصل جديد من لعبة «تصفية الحسابات» السياسية.
ومن هنا لم تُخْفِ الأوساط المطلعة القلق من مآل استحضار مكتب الإعلام في القصر الجمهوري (اول من أمس) مواد في قانون العقوبات تقضي بالحبس لمَن ينشر «وقائع ملفقة أو مزاعم كاذبة لإحداث التدني في أوراق النقد الوطنية أو لزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها (…)».
واستوقف الأوساط نفسها أن هذا الأمر أعقبه أمس، وعلى وقع تجدُّد الحِراك الاعتراضي ولو المحدود في وسط بيروت على الواقع المالي – الاقتصادي، تأكيد مصادر قريبة من القصر (لتلفزيون LBCI) «ان كل مَن يبث شائعة سيُلاحَق ولا خيمة فوق رأس أحد وعلى الأجهزة الأمنية والقضائية القيام بواجبها»، متحدّثاً عن «أن هناك اكثر من غرفة عمليات تعمل لضرب العهد وتقويض سلطة الدولة ومعروف منها غرفتان على الأقلّ»، وذلك فيما كان أحد قياديي «التيار الوطني الحر» (حزب عون) يتقدّم بإخبارٍ بشأن «تحقير الدولة اللبنانية ورئيسها، تلفيق مزاعم، إحداث تدني في أوراق النقد الوطنية، وحض الجمهور على سحب أموال».
* والعامل الثاني «اهتزاز الثقة» بين مكونات السلطة في ضوء «تقاذُف المسؤولية» الذي برز مع انفلاش أزمة شحّ الدولار خلال وجود رئيس الجمهورية في نيويورك، ثم اعتبار فريق عون هذه الأزمة وما شهدتْه «غضبة الأحد» من احتجاجاتٍ تحوّلت شغباً وأعمال قطْعٍ للطرق بالإطارات المشتعلة في أكثر من منطقة ودعوات لإسقاط العهد والحكومة، استهدافاً لرئيس الجمهورية ومحاولةً لتحميله مسؤولية واقعٍ لم تتوانَ أوساطه عن التذكير بأن «أبوّته» تعود إلى حقبة التسعينات من القرن الماضي وما تلاها.
وإذا كان جانبٌ من «رسائل» يوم الأحد اعتُبر من دوائر مراقبة على أنه في سياق الردّ الضمني على كلام عون الذي فُسّر تحميلاً لوزير المال علي حسن خليل، وهو من فريق رئيس البرلمان نبيه بري، (وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة) مسؤولية نقص الدولار في الأسواق، فإنّ إشاراتٍ لقريبين من رئيس الجمهورية عكستْ أن العلاقة مع رئيس الحكومة سعد الحريري لم «تنجُ» من شظايا هذه الأزمة رغم حرص الجانبيْن على تأكيد أن الحكومة ماضية في مهماتها وضرورة تفعيلها.
وكان لافتاً أمس ما نُسِب إلى مصادر قصر بعبدا من أن «الحكومة ليست في خطر وهي تعرضت للخطر ممن تظاهروا ونادوا بسقوطها ومعروف مَن حرّك أعمال الشغب بعد ظهر الأحد»، وذلك بعدما كانت تقارير نقلتْ أن «وظيفة الائتلاف بين عون والحريري لم تنتهِ بعد، وهناك خط أحمر وحيد بالنسبة الى عون، وهو ألّا تتحوّل الحكومة (حصان طروادة) لمحاربة العهد من داخله»، ناقلة عن مصادر في «التيار الحر» أن «عون لم يفقد الأمل بالحريري والمطلوب منه الشجاعة وأن يخرج من المنطقة الرمادية التي يقيم فيها أحياناً».
وفي موازاة ذلك، برز أول كلام للحريري بعد أزمة الدولار ثم بدء احتوائها، إذ أكد إصراره على العمل «لتحقيق الاصلاحات المنشودة للنهوض بالبلد». وأكد «أننا نعمل الآن على مسألة الفلتان لدى بعض الصيارفة. ولا أقول إن لا مشاكل لدينا لكننا نعمل ليل نهار للمعالجة، في حين يعمد البعض لترويج الاشاعات عبر الواتساب وغيره، وهذا ما نواجهه حالياً».
واعتبر الحريري، في غمْزٍ من قناة الكلام المنقول عن عون «اذا كان البعض يعتقد أن الموضوع يتعلّق بسعد الحريري فليأتِ شخص آخر، ولكن المشكلة ليست هنا بل بإيجاد حلول ونقطة على السطر».
وستشكّل الأيام المقبلة اختباراً لمدى قدرة السلطة السياسية على أن تكون على قدر الامتحان الصعب الذي عاشته البلاد الأسبوع الماضي، والاستفادة من «فترة السماح» الدولية التي بدأت تنْفذ والتي عبّر عنها أمس، تقرير شركة موديز التي أبقت التصنيف الإئتماني للدولة اللبنانية على Caa1 مع إبقائه قيد المراقبة وباتجاه التخفيض خلال ثلاثة أشهر إذا لم يتبلور مسار الأمور باتجاه إيجابي.
الراي