يَتكرّس واقِعُ «انفصامٍ» يعيشه لبنان بين مَشهد «محلّي» وآخر «استراتيجي» من خلف ظهْر «التسوية رقم 2» التي أتاحت عودة الرئيس سعد الحريري عن استقالته بموجب «تفاهُم النأي بالنفس» عن صراعات المنطقة وأزماتها والتدخل في شؤون الدول العربية، والذي حظي بغطاء دولي وازِن عبّر عنه اجتماع مجموعة الدعم للبنان في باريس يوم الجمعة الماضي.
فبيروت التي دهمتْها قضية القدس في ضوء اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بها عاصمة لاسرائيل وقراره نقل سفارة بلاده إليها، بدتْ في غمرة التفاعلات الخطيرة لهذا الملف ووهجها على لبنان، مشغولةً بعناوين من «حواضر البيت المحلي» لزوم معاودة تفعيل عمل الحكومة التي تستأنف جلساتها غداً بعد انقطاع لنحو 40 يوماً، إلى جانب الانهماك بـ «تصفية ذيول» مرحلة الاستقالة وما رافقها وأعقبها من ملابسات تتصل بأدوار داخلية يعتبر رئيس الحكومة أنها لعبتْ ضدّه، ناهيك عن انطلاق التحضيرات للانتخابات النيابية في مايو 2018.
ورغم أن جلسة مجلس الوزراء يفترض أن «تمرّ» على بعض العناوين ذات الطابع الاقليمي مثل موقف لبنان من قضية القدس والذي سيعبّر عنه اليوم رسمياً رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في اسطنبول خلال مشاركته بالقمة الاسلامية التي دعا إليها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، وجولة زعيم ميليشيا «عصائب أهل الحق» العراقية قيس الخزعلي «غير الشرعية» (كما أسماها الحريري) على الحدود الجنوبية للبنان مع اسرائيل، ونتائج اجتماع مجموعة الدعم الدولية للبنان وخريطة الطريق التي رسمتْها لحفْظ استقرار البلاد، إلا أن هذا «المرور» يبدو بلا أي تأثير على مجريات المشهد الاستراتيجي الآخذ بالتمدُّد والذي يتحكّم «حزب الله» بكل مَفاصله.
ولاحظتْ أوساطٌ مطلعة في هذا السياق عبر «الراي» ان الأيام الأخيرة شهدتْ تَسارُعاً في الأحداث التي تَجاوزتْ النأي بالنفس الذي قام على أساس أزماتٍ في طريقها إلى الحلّ مثل العراق وسورية وأعادتْ إحياء الصراع مع إسرائيل تحت عنوان التصدّي لقرار ترامب.
وحسب هذه الأوساط، فإن ما أعلنه الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله أول من امس واستعاد معه حمْل راية فلسطين يأتي من ضمن حال تجييش للمحور الإيراني الذي يعتبر نفسه منتصراً في المنطقة، وان اعلان نصر الله الى «القدس» جاء باسم «محور المقاومة دولاً وفصائل»، وهو ما يعني بالنسبة الى الأوساط نفسها أمران:
• الأول ان هذا مؤشر إضافي على مزيد من انزلاق الوضع اللبناني الى حضن إيران من ضمن معادلة «وحدة الميادين» بوجه اسرائيل التي كان تحدّث عنها نصر الله في يونيو الماضي، والتي جاءت أول تعبيراتها العملية عبر تَعمُّد بث فيديو الخزعلي وهو يجول على الحدود اللبنانية مع اسرائيل.
• والثاني أن النأي بالنفس بنسختيْه المحلية والدولية بدا وكأنه أصبح «من الماضي»، وان استثناء المواجهة مع اسرائيل (والإرهاب) من هذا النأي صار المَدخل لتكريس ربْط لبنان بنزاعٍ أكبر يطلّ على المنطقة من بوابة «بداية النهاية لاسرائيل» حسب ما لوّح به نصر الله، وهو نزاعٌ يعيد استخدام البلاد منصة بوجه دول عربية يتم اتهامها بإدارة الظهر لقرار ترامب او تسهيله.
وفيما يَطرح دفْع لبنان في اتجاه هذا التموْضع علاماتِ استفهام حول الموقف الدولي والعربي من تحويل البلاد الى ما يشبه «المقاومة لاند» (المقاومة بكل فصائلها في المنطقة المدعومة من إيران) بعدما كانت البلاد وُضعت تحت «المراقبة» لمدى قدرة السلطات الرسمية على إبعاد لبنان عن المَحاور في المنطقة، تتجه الأنظار الى ما سيعلنه الرئيس الحريري في هذا السياق خلال إطلالته التلفزيونية المرتقبة غداً عبر برنامج «كلام الناس» على شاشة «المؤسسة اللبنانية للإرسال».
وكان الحريري مهّد لهذه الإطلالة بمواقف بارزة أمام حشد من مناصريه، ليل أول من أمس، إذ قال «مررنا بأزمة صعبة، وهناك مَن أراد أن يستغلّ علاقاتنا المميزة مع المملكة العربية السعودية، للإساءة لي شخصياً. هناك أحزاب سياسية حاولتْ أن تجد مكاناً لها في هذه الأزمة من خلال الطعن بالظهر وأنا سأتعامل مع هذه الحالات، كل حالة على حدى، ولكنني بالطبع لا أحقد على أحد، لأنني على قناعة بأن الوطن بحاجة لكل أبنائه كي ينهض. وعلى كل حال سأسمي الأشياء بأسمائها في برنامج«كلام الناس»مع مارسيل غانم وسأبقّ البحصة، وهي بحصة كبيرة بالطبع. وجميعكم تعرفون مَن حاول طعننا في الظهر، وهم وحين كانوا يرددون مواقف تحدٍ لـ«حزب الله»وسياسة إيران ظاهرياً، وجدنا بالنهاية أن كل ما أرادوه هو الطعن بسعد الحريري. فهم كانوا يتهجمون مرة على الحزب وعشرين مرة على سعد الحريري، وكانوا يدّعون أنهم يستكملون مسيرة رفيق الحريري، كل ذلك كان بمثابة أكبر عملية احتيال علينا جميعاً».
وأضاف: «كنتُ واضحاً بكل مواقفي السياسية، وقلت إن هناك ربط نزاع بيننا وبين حزب الله، فلا هم سيوافقوننا على سياستنا الإقليمية والدولية ولا نحن على استعداد لأن نتوافق معهم بمواقفهم الإقليمية والدولية. لذلك، فإن كل قرار نتخذه هو لمصلحة البلد والناس وكي لا يدفع الشعب اللبناني ثمن التصادم السياسي والذي لا جدوى منه، في ظل ما يجري حولنا من حروب وحرائق».
(الراي)