جريدة الكترونية تأسست
1/1/2015
الرئيسية / أبرز الأخبار / كلمة المفتي امام خلال ندوة بعنوان “العيش المشترك…هل يأتي من التربية؟”
IMG-20230520-WA0040

كلمة المفتي امام خلال ندوة بعنوان “العيش المشترك…هل يأتي من التربية؟”

ألقى سماحة مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد طارق امام كلمة خلال ندوة بعنوان “العيش المشترك…هل يأتي من التربية؟” و التي اقيمت بدعوة من جامعة القديس يوسف حرم لبنان الشمالي، وجمعية “للخير انا وانت”.

فيما يلي نص الكلمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم رسل الله وعلى آله وصحابته اجمعين :

الحياة، تلك الخاصية العلوية المودعة من قبل الخالق في المادة الجامدة، ذلك السّر الروحي الذي استأثر الله بعلمه، وتفرّد وحده بمنحه كما استأثر وحده بأخذه، “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” إنها قدرة الخالق وحكمته، “أم خلقوا من غير شيئ أم هم الخالقون” الحياة هذه ليست في تصورنا قضية حياة وموت وكفى، أو أنها موضوع العيش والفناء والسلام، أبدا لأن الحياة بهذا التصور أليق بغير الإنسان، أو إن شئت هي حياة الكائنات الحية المتحركة بالغريزة ووفق نمط عيش واحد لم يتغير منذ وجودها الأول، تأكل وتشرب ونتناسل ثم تنتهي، أما الإنسان فهو الكائن المكرم عند الله، المميز عند الله، هو المخلوق في أحسن تقويم، حياة هذا الإنسان حياة تفاعلية تطورية، لديها مساحة واسعة من بدائل الأنماط، وميدان فسيح من خيارات التصرف سواء في ذلك التصرفات الفاعلة الصادرة ابتداء أو التصرفات الانفعالية على تلقي تصرفات الآخرين أو من خلال ظرف ما، وهي ما نسميها ردات الفعل، وفي كلا الحالتين على الإنسان أن يحسن التصرف في مجمل حركته في الحياة.
أيها السيدات والسادة،
ومن المعلوم أن الإنسان مجموعة من الطباع التي تختلف من شخص إلى آخر، هذه الطباع منها المحمود ومنها المذموم والمرذول، لذلك نقول إن علم التربية بتعامل مع الجينات الخُلُقية للإنسان كما أن علم الأجنة بتعامل مع الجينات الوراثية الخَلْقية للإنسان. فالتربية تتعهد طباع الإنسان لتقوي المحمود منها وتثبته وتعدّل المذموم منها وتوجهه، ولا نقول تلغيه فهو في الأصل مطلوب، كالغضب، والفرح، والشجاعة، والكرم….
التعامل مع خُلُق الإنسان يضبط حركته في الإتجاه الصحيح سواء كان تحركه ابتداء أو ردة فعل، التربية هي التي تؤصل الخُلُق حتى يصبح طبعاً تلقائياً عفوياً واعياً لديه.
لذلك التربية فعل دائم وعمل مستمر، وتعاهد حنون، يبذل بمحبة ويُعطى بعطف كما هو الشأن في تربية النبتة والعناية بها ومتابعتها ومراقبتها حتى تكبر، وهنا نستحضر قوله تعالى عن الإنسان : “والله أنبتكم من الأرض نباتاً”.
هل الإنسان قادر على تعديل طباعه وبالتالي تصرفاته، نعم وقد أشار الحديث النبوي الشريف إلى ذلك بقوله صل الله عليه وسلم ” ليس الشديد بالصرعة إما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب “.
وقال : ” عليكم بالرفق وإياكم والعنف، فإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف “.
من هنا نفهم أن التربية ليس لها وقت، فهي ليست منحصرة في مراحل الحياة الأولى حيث يشرف عليها المربون والأهل فقط، بل تمتد بتربية الإنسان نفسَه دائماً والتحكم بطباعه وتقوية الجيد فيها ومكافحة السيئ وإضعافه والتخلص منه.
على أنه من أقوى العوامل في تكوين الإنسان وتربيته النموذج العملي الصالح، هذا النموذج الذي يفتح الطفل عليه عينيه ويبدأ بالتأثر به، وهو الوالدان الدائرة اللصيقة به، فهذا يفوق كل تأثير آخر، كما أنه يفعل فعله بالممارسة العملية التي ترسَخُ في ذهن الطفل ووجدانه أكثر من التلقي التوجيهي القولي، لذلك أنتم أيها الآباء والأمهات أنتم المربون الأولون وعلى عاتقكم هذه المسؤولية : “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته…” وبقدر ما يحبكم ويعشق تصرفاتكم بقدر ما ينشأ ويتأثر ثم يأتي دور المدرسة ثم دور المعشر والأصدقاء ثم البيئة والمحيط، وكل ذلك له تأثيراته الحاسمة على تكوين شخصية الإنسان وصقل طباعه ورسم معالم سلوكه في هذه الحياة ونظرته إلى الأمور.
أيها الأعزاء أما الإعلام فهو المؤثر الأكبر والموجه الممتع، وهنا تكمن خطورته، وهنا تتضاعف جهود المربي لتجنيب أبنائنا مضاره وتمحيص تلقيه بمنفعة وفائدة ومتعة هادفة.
ومن مفردات التربية الأساسية احترام النظام، والتدريب على الحياة المجتمعية، ووعي الناشئة على تراتبية المجتمع وصلاحيات الهيكلية البنيوية فيه، من مؤسسات قضائية وأمنية وإدارية ومجالس تقريرية وأخرى تنفيذية، بحيث يعي الإنسان على سبل حفظ حقوقه وكيفية الوصول إلى حقه بالطرق الصحيحة بعيدا عن منطق القوة الفردية والاستقواء بالعائلة أو العشيرة أو العزوة أو المنطقة وما شابه.
ومن المفردات الأساسية للتربية أيضاً أنها لا تعني التصرف بالتساوي في كل المواقف، وهذه قضية في غاية الحساسية، حيث إن التربية هي تمكين الإنسان من إعطاء كل موقف ما يلائمه من التصرف السليم، فهناك اللين والمرونة وهناك أيضاً الصلابة والثبات، كما أن هناك الرحمة والمسامحة على قدر مع وجود الشدة والحزم، وهناك التعبير عن الرضا كما أن هناك إرسال الإشارات عن الامتعاض وعدم الموافقة….، لكل مقام مقال.
ومن المفردات الأساسية للتربية أيضاً حسن الرؤية والتعاطي الموضوعي مع الشؤون العامة وشؤون العمل، والحذر من شخصنة الأمور ودمج العام بالخاص، بحيث يصبح الخاص هو المعيار للنظرة إلى الأمور، ويغدو هو المحرك أو هو المانع من مقاربة الموضوع، وهذا أمر خطير جداً، خصوصاً في أصحاب المواقع والمسؤوليات، ولعل هذا من جملة ما نعانيه في كثير من شأننا العام، وهنا نتطلع إلى وجود مؤسسات شفافة حضارية لا تعترف إلا بالنظام ولا تتحاكم إلا إلى القانون والإدارة السليمة، وما أجمل الوطن وما أسعد المواطن عندما تكون مقاليد أموره في مؤسسات شفافة ودقيقة تحترم كرامة المواطن قبل أن تنجز له أعماله وتلبي له طلباته.
من كل ذلك، أيها الأعزاء، نخلص أن التربية تهدف إلى تلاقي الإنسان مع الإنسان بصفته الإنسانية وليس بأي صفة أخرى يحملها، هي معرفة قيمة هذا الإنسان والتعامل معه أنه تلك القيمة الكبرى التي كرمها الله في إنسانيتها، وذلكم هو العيش الموحد (وليس المشترك) الذي هو ميزة لبنان ورسالته التي علينا أن نرسخها وأن نرفع منسوب الوعي عليها.