يبدو أن شعار الزعيم الكوبي الراحل، فيديل كاسترو، “الاشتراكية أو الموت” هو أصدق تعبير عن السيناريوهات المحتملة لتطور الأحداث في لبنان.
في مقال سابق، كنت قد وصفت بالتفصيل الأسباب الرئيسية لكارثة لبنان .
إن كل ما نسمعه اليوم من أصوات ووعود حول ضرورة الإصلاحات الاقتصادية التي سوف تنقذ لبنان ليس سوى عبارات إنشائية فارغة. فلا شيء يمكنه أن يعيد لبنان إلى مستوى معيشته السابق، وحتى القروض والمساعدات الأجنبية لن تفعل سوى أن تؤجل الكارثة لفترة قصيرة للغاية.
إن الإصلاح الاقتصادي الواقعي الوحيد المطروح على الحكومة اللبنانية هو خفض الليرة اللبنانية إلى مستوى يوازن التجارة الخارجية، بمعنى أن تنخفض الواردات إلى قيمة تساوي الصادرات. أي أن إنشاء توازن صفري أو إيجابي للتجارة الخارجية والمدفوعات وحده هو ما يمكن أن يوقف الليرة عن استمرار انهيارها، وما هو ما يعني خفضا كارثيا لمستوى المعيشة، وإجبار المواطنين على تقليل الاستهلاك بعدة أضعاف، وهو ما قد يدفع للتمرد والعصيان.
قد يكون هناك جانب آخر حتمي وضروري للإصلاح الاقتصادي الحقيقي، وهو التخلف عن سداد الديون. ولكن طالما أن الحكومة تسعى إلى الحصول على مساعدات غربية، يصبح من غير المرجح ألا تتخذ خطوة كهذه حتى تفلس تماما.
إن هاتين النقطتين سوف تنفذان حتما، وأكرر هنا، حتما ودون بدائل أخرى، وسيحدث ذلك إما بشكل لا إرادي عفوي، نتيجة للفوضى وانهيار الاقتصاد، وربما انهيار الدولة، أو عن طريق تحول تحت السيطرة.
وهكذا، يقف لبنان أمام مفترق طرق، ولا أرى أمامه سوى خيارين لا ثالث لهما:
الأول، يتطور الوضع اللبناني من تلقاء نفسه. يرفض الغرب منح لبنان القروض التي يطلبها، لحاجته إلى تدمير حزب الله، حتى لو حدث ذلك على حساب تدمير لبنان نفسه. تستمر الليرة اللبنانية في الانخفاض، وتزداد معدلات الفقر في البلاد، وينهار الاقتصاد بشكل تلقائي. تخشى الحكومة التخلف عن سداد الديون، وكتدبير وسطي، تبدأ في سداد الديون من خلال طباعة أموال غير مغطاة من البنك المركزي اللبناني، من المرجح أن يؤدي ذلك إلى تضخم مفرط، وزيادة هائلة في الأسعار، واستهلاك لجميع المدخرات، ووقف الأداء الطبيعي للبنوك والاقتصاد والتجارة، وما يتبع ذلك كله من كوارث اجتماعية.
ربما ستسقط الحكومة الحالية، وحتى قد لا يكون لحزب الله تأثير حاسم في الحكومة الجديدة، لكن الحكومة الجديدة هي الأخرى لن تحل المشاكل، ولن تلبث إلا أن تسقط هي وما يليها من حكومات، حتى تصل الليرة والاقتصاد اللبناني إلى توازن جديد في مكان ما بالقاع.
الثاني، أن تضع الحكومة البلاد في وضع اقتصاد تعبوي. لا أتصور مكانا في العالم يمكن أن يحكي لكم عن الاقتصاد التعبوي أصدق من روسيا! إننا نمر بوضع الاقتصاد التعبوي منذ الحرب الأهلية، ثم الحرب العالمية الثانية، بل قل إننا في الواقع نعيش اقتصادا تعبويا عبر التاريخ الروسي كله، وليس فقط بعد قيام الاتحاد السوفيتي. روسيا تعيش اقتصادا تعبويا على مدار ألف عام تقريبا، منذ إنشاء الدولة الروسية نفسها.
إنه ذلك الاقتصاد الذي تركز فيه الدولة كل موارد المجتمع في أيديها لتحقيق هدفين: دحض العدوان الخارجي، وتوفير الحد الأدنى المقبول من متطلبات المعيشة في ظل الظروف القاسية.
في الفترة الاشتراكية، لم تلتزم الدولة بضمان بقاء السكان فحسب، بل ضمنت أيضا، بشكل أو بآخر، العدل في توزيع الموارد الشحيحة، والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع، وهو ما أسهم في استقرار النظام.
في لبنان، سوف يطرح السيناريوهان أسئلة حول كيفية منع حدوث أعمال شغب بين السكان، ضد انخفاض كارثي غير مسبوق في مستويات المعيشة، والحفاظ على الأداء الوظيفي المعتاد لمؤسسات الدولة والحكم.
الخيار الأول، يطرح سؤالا حول كيفية النظر إلى أي قمع للاضطرابات، دون ضمان اتباع نهج متساو لجميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والطائفية؟
وإذا كانت إجراءات الحكومة الحالية مرتبطة بحزب الله، فربما سوف ترتبط إجراءات الحكومة الجديدة بأحزاب أو فصائل أو طوائف أخرى، لذلك ستبدو أي محاولة لقمع التمرد، من قبل أي حكومة قادمة، على أنها أفعال ذات توجه سياسي معين، ستثير على الأرجح مقاومة من الفصائل الأخرى، قد تكون مقاومة مسلحة.
سيكون من الصعب للغاية على دولة لديها مثل هذه الخلفية والتاريخ والتكوين العرقي الطائفي أن تتجنب انزلاق إجراءات قمع الاحتجاجات الاجتماعية واسعة النطاق إلى جحيم الحرب الأهلية، خاصة عندما تعلو أصوات الوعود الغربية بالمساعدة والعون شرط التخلص عن هذه الجماعة أو تلك، ممن لا تحبهم الولايات المتحدة الأمريكية.
الخيار الثاني، يتضمن نظاما صارما من أجل الاستقرار أيضا. دعونا نتفق على أن لينين وستالين لم يكونا حمائم سلام. لكن أحدا من القادة الشيوعيين لم يكن لينجح بالعنف وحده، دون بناء مجتمع تسوده المساواة، حتى وإن كان فقيرا. وبدون بعض الضمانات الاجتماعية، وإدخال نظام بطاقات التموين، التي يحصل بها المواطنون على حاجياتهم الغذائية الأساسية مؤقتا في أحلك أوقات الحرب العالمية الثانية، إنقاذا للبلاد من الجوع، لم يكن الاتحاد السوفيتي ليستمر، في ظل البيئة المحيطة المعادية. لم يكن ليستمر دون أيديولوجية أممية ترفض التقسيم على أي أسس عرقية أو طائفية أو عقائدية، ودون ضمان للمساواة الاجتماعية.
هل يمكن تقديم الدعم للفقراء على حساب الأغنياء، وإجراءات أخرى مماثلة إلى تقليل احتمالات أو على الأقل خفض مستوى الاحتجاجات في لبنان؟ أعتقد نعم.
كشخص نشأ وترعرع في الاتحاد السوفيتي، وشهد بنفسه عدم كفاءة الاقتصاد الاشتراكي إلى حد كبير، أنا لست من مؤيديه. ومع ذلك، وبعد 30 عاما من انهيار المشروع الاشتراكي، أصبح من الواضح لدينا فجأة، أن المشروع الرأسمالي هو الآخر في طريقه للغرق. ربما لا يوجد نموذج اقتصادي مثالي في العالم على الإطلاق، ربما تكون هذه مراحل مختلفة من دورة اقتصادية ما، تمر خلالها المجتمعات بهذه النماذج الاقتصادية في مراحل مختلفة من تطورها، بعضها قد يصلح لفترة من الزمان، بينما لا يصلح لأخرى.
يحدوني شك بشأن مستقبل لبنان، وأعتقد أن الخيار الأول هو الأقرب للتنفيذ. علاوة على أنه يصعب علي تخيّل السيد حسن نصرالله رئيسا لحزب البعث اللبناني الاشتراكي العربي…
ومع ذلك، من الواضح لي، أن أي محاولة ناجحة من قبل لبنان للخروج من الأزمة، ستشمل مجموعة واسعة من الإجراءات التي لا يمكن وصفها سوى بالاشتراكية – ضمانات اجتماعية واسعة النطاق من الدولة، تخفيف الأعباء عن الفقراء على حساب الأغنياء، وتأميم بعض قطاعات الاقتصاد.
في رأيي، إذا نجا لبنان من الأزمة الحالية، فسوف يتحول لفترة، إلى ما يمكن وصفه بالأكثر اشتراكية مما هو عليه الآن، إن لم يكن اشتراكيا. في هذه الحالة، من المحتمل أن تكون المواجهة مع الغرب حتمية، لأن الغرب لن يروقه رفض لبنان لسداد الديون.
على أي حال، أتوقع أن تكون القيم الاشتراكية مطلوبة بشكل متزايد، ليس فقط على مستوى العرب، وإنما على مستوى العالم كله، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية. إنها حقبة، أو بالأحرى دورة / مرحلة تاريخية جديدة.
“روسيا اليوم”