صحيفة نداء الوطن-
ثمة ضحيتان نتيجة تداعيات حادث تدهور شاحنة سلاح «حزب الله» على كوع الكحّالة: ترشيح «الحزب» لرئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية والتمسك به مرشحاً وحيداً، وتفاهم رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل مع «الحزب» حول هذا الترشيح مقابل جوائز ترضية تتعلّق بمستقبل باسيل السياسي وحصّته في الحكم ووعده بالرئاسة واللامركزية الإدارية.
في كتابه «على دروب الشهامة… من الفياضية حتى واشنطن»، يروي اللواء المتقاعد أنطوان بركات أسراراً وأخباراً عن تاريخه العسكري وعن دور الجيش اللبناني في «حرب السنتين» والمعارك على جبهات كثيرة ومن بينها جبهة الكحّالة.
يقول بركات: «في 25 آذار 1976 قمنا بعد استكمال القوى والتجهيزات بالتنسيق مع الأهالي والأحزاب بهجوم محدود أدى إلى تمركز قوة في أعالي الكحّالة المواجهة لبلدة عاليه وأمام قصور الأمراء الكويتيين. في هذه الأثناء كان الفلسطينيون ومن معهم قد بدأوا بجمع قواهم وكل ما توفّر لديهم من إمكانات من الرجال والعتاد وكانت كثيرة وهائلة.. تمهيداً لتوجيه ضربة إلى الكحّالة وإلى المحاور الأربعة الأخرى… ليل 28-29 آذار 1976 شنّوا هجوماً مركّزاً على الكحّالة وعاريّا والقرى المجاورة، ولكنّه باء بالفشل بفضل المقاومة التي أبداها الأهالي والمساعدة التي قدمناها لهم… وفي ليل 31 آذار – 1 نيسان 1976 بدأوا بالهجوم الثاني مستهدفين الكحّالة والقرى المجاورة وتمكّن عناصرهم من التسلّل باتجاه مراكزنا والوصول إلى منطقة الرجوم السفلى ثم التوغل داخل منطقة الرجوم العليا وتطويق مركز القصور».
يضيف: «بات يُخشى سقوط بلدة الكحّالة فأَرسَلتُ على الفور وحدتين من الإحتياط المدرّع… اتصلت بالرائد نهرا الشالوحي (قائد الحرس الجمهوري) لتحضير الحرس الجمهوري فأبدى ممانعة في بادئ الأمر رافضاً مساندتي بحجّة أنّه مكلّف حماية القصر فحسب. إزاء هذه السلبية طلبتُ الملازم الأول لوسيان مكاري في القصر الجمهوري وقلت له: إنّي أخاطبك كزغرتاوي… كن مستعدا للإنطلاق… جبهة الكحالة على شفير السقوط حضّر أربع دبابات م 42 ومدفعين من عيار 106 ملم وحاملة الجند التي أعطيتكم إيّاها مليئة بالذخائر، وتوجّه فوراً إلى الكحّالة. وإذا اعترض الشالوحي «قوّصو…». فأجابني الملازم الأول مكاري: «بأمرك سيدنا». ثم اتصلت بالرئيس سليمان فرنجية في مقرّه في الكفور، فردّت كريمته السيدة لميا الدحداح قائلة: «الرئيس نائم. ماذا جرى؟».
جاء أيضاً: «فقلت أسرعي وأيقظي الرئيس… فالكحّالة تكاد أن تسقط، والرائد الشالوحي يرفض المساعدة بحجّة الدفاع عن القصر». فأجابتني: «سأُخبِر الرئيس فوراً. انتظرْ…». انتظرت لحظة، وإذا بالرئيس يقول لي: «انتبه جيداً فأنت المسؤول عن الكحّالة. والشالوحي سيلبّيك فوراً». وكرّر ذلك بصوت عال وبانفعال. ما إن وضعت سماعة الهاتف حتى طلبني الرائد الشالوحي فقلت له على الفور: «أسرع».
يتابع اللواء بركات سرد تفاصيل المواجهة العسكرية وكيف أعطيت الأوامر للمدفعية الثقيلة بالقصف المركّز، وكيف كان المهاجمون على وشك الوصول إلى مسافة قريبة من كنيسة مار أنطونيوس عند كوع الكحّالة، وكيف تمّ صدّهم، وكيف توجّه إلى البلدة بسيارة بيجو لحثّ الجيش و»الأهالي» على القتال والدفاع عن البلدة المهدّدة بالسقوط، وكيف تمكّنوا من صدّ الهجوم، ويقول: «في طريقي إلى الكحّالة كنت أحثّ المقاتلين وأُشعِل الحميّة في صدورهم بينما الآليات تتبعني الواحدة تلو الأخرى حتى بلغ عددها عندما وصلت إلى كنيسة البلدة ثماني آليات. التقيتُ هناك الملازم الأول لوسيان المكاري مع قوة من الحرس الجمهوري، فأطلعني على حقيقة الوضع فقرّرت حالاً السيطرة على الطريق العام بالقيام بهجوم فوري بالآليات من أمام الكنيسة باتجاه الجسر عند مدخل الكحّالة حتى غاليري خيرالله… نجح الهجوم بتقدّم اندفاعي جنوني ووصلنا إلى الجسر فغاليري خيرالله…».
الجيش ومعركة 13 تشرين
منذ ذلك التاريخ بقيَت حدود جبهة الكحّالة ثابتة. وبقيَت بشكل أساسي تحت إمرة وحدات من الجيش اللبناني باعتبار أن المنطقة، شمال خط الشام، بقيَت تُعتبر منطقة عسكرية لصيقة بأمن وزارة الدفاع في اليرزة والقصر الجمهوري في بعبدا، وكانت الجبهات من المرفأ حتى الشمال مقسّمة تباعاً بين الجيش وبين «القوات اللبنانية». هناك عند تلك الجبهة ترك العماد ميشال عون الكتيبة 102 تقاتل وحيدة بينما ترك القصر الجمهوري في بعبدا ولجأ إلى السفارة الفرنسية في 13 تشرين الأول 1990، واستطاعت قوات جيش النظام السوري اختراق تلك الجبهة للمرّة الأولى منذ آذار 1976 وارتكاب مجزرة بحقّ ضباط وعناصر تلك الكتيبة الذين استبسلوا في القتال، وبحقّ عدد من أهالي منطقة الكحّالة والقرى المحيطة بها.
كان اللواء انطوان بركات، ابن منطقة زغرتا، برتبة عقيد عندما قاد من ثكنة الفياضية منتصف آذار 1976 انقلاباً مضاداً في مواجهة انقلاب العميد عزيز الأحدب في 11 آذار، الذي طالب باستقالة الرئيس سليمان فرنجية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية تحت الضغط العسكري. وكان الرئيس فرنجية قد اضطرّ إلى ترك القصر الجمهوري في بعبدا وانتقل إلى مقر موقّت في الكفور بعدما تعرّض القصر لقصف مدفعي مركّز. كانت كل الجبهات موحدة في تلك المرحلة من المرفأ إلى الكحّالة وتلال الزعرور وصنين والعاقورة وصولاً إلى زغرتا.
كوع الكحّالة ومعارك الرئاسة
ليل انقلاب شاحنة سلاح «حزب الله» على كوع الكحّالة في 9 آب الحالي غاب طرفان أساسيان عن السمع: الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، الذي لم يصدر عنه أي موقف يتعلّق بسلاح «الحزب» وبما تعرّض له أهالي الكحّالة واستشهاد أحد أبنائها فادي بجّاني. إذا كان المرشّح الوحيد لرئاسة الجمهورية لا يستطيع أن يطلق موقفاً مباشراً من حادث من هذا النوع، فكيف سيكون مؤتمَناً على رئاسة الجمهورية؟ وإذا كان رئيسا «التيار الوطني الحر»، المؤسِّس، والوريث، لا يستطيعان أن يتبنّيا قضية دفاع أبناء الكحّالة عن أنفسهم فكيف سيكونان مؤتمَنين على استعادة الجمهورية؟
حادث شاحنة سلاح «حزب الله» أتى بعد عشرة أشهر على الفراغ في قصر بعبدا وفي خضم تمسّك «حزب الله» بسليمان فرنجية مرشّحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية، وتعطيل نصاب جلسات انتخاب الرئيس حتى يوافق المعارضون على هذا الترشيح. والحادث الذي كان وقع قضاءً وقدراً وتطوّر إلى اشتباك واسع حول سلاح «حزب الله» الذي قُتِل أحد عناصره فيه، سيكون له تأثير مباشر في معركة رئاسة الجمهورية كما كان لحوادث كوع الكحّالة عام 1970 تأثير مباشر على معركة رئاسة الجمهورية ذلك العام.
في نيسان 1968 قتل في الأردن اللبناني خليل الجمل الذي كان منتظِماً في إحدى المنظمات الفلسطينية وذلك خلال اشتباك مع الجيش الإسرائيلي، وكان أول لبناني يسقط هناك في سبيل هذه القضية. خلال نقله من الإردن إلى بيروت لتشييعه مرّ موكبه على طريق الشام وكان له استقبال في الكحّالة نفسها كما في عدد من البلدات والقرى التي مرّ بها الموكب المسلح. بعد عامين ستنقلب المقاييس.
في 25 آذار 1970 قُتِل الفلسطيني سعيد غوّاش في مخيم تل الزعتر خلال اشتباك مع مسلحين فلسطينيين آخرين. كان ذلك بعد أربعة أشهر من توقيع «اتفاقية القاهرة». جرت محاولة لنقل الغواش عبر مطار بيروت إلى الأردن ولكنّ العملية لم تتمّ بسبب عدم توفّر طائرة في الوقت المناسب. لذلك تقرّر نقله برّاً إلى دمشق عبر موكب مسلح. خلال مرور الموكب في الكحّالة أطلق مسلحون النار في الهواء وحصل احتكاك مع عدد من الأهالي الذين أصيب عدد منهم، ولكنّ الموكب مرّ وأكمل طريقه. جرت محاولات لمنع الموكب المسلّح العائد من سوريا من المرور في الكحّالة ولكنّ المحاولة فشلت. خلال عبوره حصل الإشتباك الذي أدى إلى سقوط عدد من القتلى. على أثر هذا الحادث تم خطف الشيخ بشير الجميل على أحد الحواجز الفلسطينية واحتجازه في تلّ الزعتر، بعد اتّهامه بأنّه كان في الكحّالة يوم الحادث مشاركاً في إطلاق النار، قبل أن تحصل تدخّلات أدّت إلى إطلاقه لعب دوراً فيها وزير الداخلية كمال جنبلاط.
هل يبقى لبنان؟
كمال جنبلاط كان نجم جلسة مجلس النواب التي انعقدت مساء الثلاثاء 7 نيسان 1970، لمناقشة ما حصل في الكحّالة وتمدّد إلى المكلّس والدكوانة وتل الزعتر وحارة حريك. أظهر النقاش الإنقسام الداخلي حول دور السلاح الفلسطيني في لبنان. جنبلاط دافع عن دوره كوزير داخلية واتهم المكتب الثاني بأنّه لعب دوراً في الأحداث الدائرة. الردّ الأساسي عليه كان من النائب رينيه معوّض الذي استعرض تفاصيل حادث الكحّالة مدافعاً عن الجيش والمكتب الثاني منهياً مداخلته، بأن من أهداف هذه الأحداث تعميم الفوضى وإبعاد الجيش، والإتيان برئيس ضعيف في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وقال مخاطباً جنبلاط: المعركة ستبدأ منذ انتخاب رئيس الجمهورية لأنّهم يريدون ان يُظهروا للبنانيين ان كل ما يحصل هو بسبيل انتخاب معركة السبعين. فأُصلِح لك من هنا: لا تهمّنا معركة السبعين، الذي يهمّنا هو أن يبقى لبنان قبل السبعين وبعد السبعين، يبقى كما هو ولا مجال فيه لأي ارتباطات مشبوهة ولأي اخطار لا يتقبّلها هذا البلد».
في 17 آب 1970 بعد خمسة أشهر على أحداث الكحّالة، انتُخِب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية في جوّ مشحون ضدّ السلاح الفلسطيني بفارق صوت واحد بعدما اتفق على ترشيحه أقطاب الحلف الثلاثي، كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده.
عندما زار النائب طوني فرنجية مقرّ حزب «الأحرار» في السوديكو يوم 7 آب تحدّث عن «التاريخ المُشترك الذي يجمعنا بهذا المكان بالاضافة إلى القواسم والمبادئ المشتركة التي تجمع «المردة» بـ»الأحرار»، وذلك منذ أيام الرئيسين المغفور لهما كميل شمعون وسليمان فرنجية، فقد جمعهما تاريخ نضاليّ وتضحيات دموية كبيرة جدّاً، وساهما معاً في حماية هوية لبنان والدفاع عنه بوجه التوطين ومختلف المشاريع التي هدّدته».
معركة الكحّالة عام 1970 كانت من هذا التاريخ المشترك، وكذلك معركة رئاسة جمهورية 1970، ومعركة الكحالة 1976. كانت المواجهات وقتها لحماية هويّة لبنان المهددة بحكم استخدام السلاح الفلسطيني في معارك الداخل. هذه الهويّة اليوم مهددة بفعل سلاح «حزب الله» الذي لا يأخذ بالإعتبار حجم المعارضة المتنامية لدوره وسلاحه ومشاريعه. ولذلك يستهجن كل المواقف المعارضة والناصحة له بأنّه يحمِّل لبنان أكثر من طاقته ويعرّضه للإنفجار. عام 1976 كانت معركة الكحّالة دفاعاً عن زغرتا أيضاً وعن تثبيت بقاء الرئيس سليمان فرنجية في منصبه. ربما المطلوب من رئيس «تيار المردة» اليوم موقف بحجم موقف الرئيس فرنجية ذلك العام.
بسبب ضغط الأحداث في الكحّالة يؤجّل نشر الحلقة الثانية من ملف
«صراع الحياة وما بعد الوفاة بين الأسد وعرفات» إلى الثلثاء المقبل