أطفأتْ بيروت، وعلى نحوٍ لافت، المحرّكات التي صالتْ وجالتْ كثيراً في المنازلات حول قانون الانتخاب، وبدت كأنها ربطتْ أحزمتها في ملاقاة زيارة «القمم الثلاث» للرئيس الأميركي دونالد ترامب للسعودية. فلبنان الذي سيشارك في القمة الموسعة، العربية – الإسلامية – الاميركية سيكون حاضراً على الطاولة أو تحتها، في القمّتيْن السعودية – الأميركية، والخليجية – الأميركية كونه مسقط أحد أهمّ الأذرع الإيرانية في المنطقة، أي «حزب الله» الذي يضطلع بأدوار محورية عبر قتاله في سورية والعراق واليمن ونشاطه في غير مكان في المنطقة.
ورغم طمْأنة رئيس الوفد اللبناني الى القمة، رئيس الحكومة سعد الحريري الى انه لن يلتزم بما قد يسيء الى أي مكوّن سياسي أو طائفي وسيلتزم سقف البيان الوزاري لحكومته، فإن «حزب الله» غير المُطْمَئِنّ يرى في زيارة ترامب وقممها بدايةً لمرحلة من المتاعب تتجاوز الموقف الرسمي اللبناني «الممسوك» نتيجة موازين القوى، خصوصاً مع وجود حليفه، أي العماد ميشال عون على رأس السلطة، ووضْع الحريري والقوى السياسية الأخرى الملفات الخلافية (الاستراتيجية) مع الحزب على الرفّ في إطار التسوية السياسية التي كانت جاءتْ بعون رئيساً وأعادتْ الحريري الى رئاسة الحكومة.
والحريري، الذي أعدّ خطابه الى القمة بعنايةٍ شديدة، يتكئ على تَفاهُم مع عون وعلى تَفَهُّم سعودي – خليجي، وهو الأمر الذي انطوتْ عليه عملية إخراج دعوة المملكة للبنان التي وُجّهت الى الحريري لا إلى عون، إضافة الى الإخراج المفترض لموقف لبنان في القمة التي من المرجّح أن تعكس تَشدُّداً تجاه إيران وأذرعها في المنطقة، وما يشاع عن إمكان تشكيل «ناتو» عربي يضمّ السعودية والامارات ومصر والاردن في إطار مشروعٍ يعيد إيران الى… إيران.
فـ «حزب الله» الذي شبّه «القمم الثلاث» بما جرى في شرم الشيخ عشية حرب «عناقيد الغضب» التي شنّتها إسرائيل على جنوب لبنان في العام 1996، يدرك أن المنطقة تَدخل مرحلةً انعطافية رغم محاولات إشاحة النظر عن التحول المفصلي لحركة ترامب من خلال الإيحاء بأن «تدشين» عهده بزيارة السعودية واسرائيل والفاتيكان في لحظة اضطرابِ إدارته يشبه زيارة ريتشارد نيكسون للمملكة واسرائيل وسورية في العام 1973 قبل أن تطيح به فضيحة «ووترغيت» أو أن ترامب آتٍ ليأخذ صفقات بنحو 100 مليار دولار من دون ان يعطي أي شيء.
ملامح هذا التحوّل الذي يلفح لبنان بدأت قبل أن يصل ترامب الى المنطقة، ومنذ لحظة دخوله البيت الأبيض حين انقلب على خيارات سلَفه باراك أوباما. ولعل أبرز العلامات الفارقة في هذا السياق يمكن رصدها على النحو الآتي:
• اعتبار إيران الدولة الاولى الراعية للإرهاب وعزْمه على مواجهة نفوذها في المنطقة.
• إرسال نحو 1000 عنصر من «المارينز» الى سورية والشروع في حجْز مناطق نفوذ فيها، ومضاعفة دعم حلفاء واشنطن كالأكراد.
• العمل على قطْع «الهلال الشيعي» الذي تمدّه إيران من طهران الى بيروت عبر بغداد ودمشق من خلال السيطرة على الحدود السورية – العراقية.
• الرسالة القوية التي حملتها صواريخ «توماهوك» على مطار الشعيرات رداً على استخدام النظام للكيماوي.
• السعي للعودة بالعلاقة الأميركية – الخليجية الى طابعها الاستراتيجي عبر الاتجاه لدعم قيام «ناتو عربي» في مواجهة النفوذ الإيراني.
• الاستعداد لإطلاق موجة جديدة من العقوبات المالية ضدّ «حزب الله» وداعميه في إطار العمل على محاصرته وإضعافه.
ولا تعني ملامح هذا التحوّل ان مهمة الولايات المتحدة وحلفائها ستكون سهلة في مواجهة محورٍ قوي يضمّ روسيا وإيران وحلفائهما، لكن الأكيد ان إدارة الظهر الأميركية التي سمحتْ لهذا المحور بالتمدّد تتلاشى، ما يجعل المنطقة في فم منازلةٍ أكثر ضراوة.
والسؤال الذي يزداد وطأة الآن هو أي انعكاسات ستكون على لبنان المسكون بأزمة سياسية – دستورية اسمها قانون الانتخاب؟
ثمة مَن يعتقد ان الحرب في سورية، وفي سورية ستبقى لأن ما من مصلحة لأيٍّ من اللاعبين الكبار باقتياد بلادٍ ثلث سكانها من النازحين السوريين الى «الحريق الكبير»، اضافة الى ان «حزب الله» الذي يتعاطى مع لبنان وكأنه «تحت السيطرة» يحرص على استقراره لحماية ظهر معركته الاستراتيجية في المنطقة ولا سيما في سورية. أما خصوم الحزب، فيتكئون على «ربْط النزاع» معه على قاعدة أنه بات مشكلة إقليمية تتجاوز قدرة اللبنانيين على التعاطي معها، وتالياً فإن حلُّها لن يكون إلا إقليمياً.
(الراي)