أن ترسب في امتحانين بدل ثلاثة لا يجعلك طالباً ناجحاً. فبعد “موديز” جاء “فيتش” ليقضّ مضاجع التصنيف الإئتماني اللبناني مباغتاً اللبنانيين ومنغصاً عليهم مرور قطوع “ستاندرد أند بورز” بأقل الأضرار الممكنة مع إبقائها على تصنيف B- بعد مسار محفوف بالترقب وحبس الأنفاس. مرّ القطوع لستة أشهر على الأقل قبل أن يعود سيف الوكالات لينقضّ على الرؤوس، ليس فقط رؤوس المصارف، المعني الأول بهذه التصنيفات كونها ترتب عليها تغييرات جذرية في هيكليتها وطريقة عملها في حال خُفّض التصنيف، ولكن أيضاً على رؤوس اللبنانيين جميعاً لارتباط التصنيف بكلفة الدين والمخاطر التي ستطاول مدخراتهم وقدرتهم الشرائية.
لكن يبقى أنّ انعكاسات خفض تصنيف “فيتش” للبنان كبيرة ولا يجوز التقليل من أهميتها، فهذه الوكالة الثانية بعد وكالة موديز (صنفت لبنان Caa1) التي تعتمد تخفيض التصنيف الإئتماني للبنان إلى درجة Ccc. وهذا يفرض على القطاع المصرفي قيوداً إضافية وإجراءات قد تصل إلى ضرورة إعادة الهيكلة وزيادة رأس المال وتعزيز الملاءة في مرحلة أكثر من دقيقة يمر بها الإقتصاد، تَعمّق خلالها الركود وشحّت السيولة.
ولا شك أن ما عزز الرؤية السلبية لوكالات التصنيف هو تراجع نمو الودائع وتآكل إحتياط المصرف المركزي بفعل تنامي عجزي الخزينة وميزان المدفوعات. ولا شك أيضاً أن موازنة الـ 2019 “الحساسة”، التي لا تستند إلى خطة مستدامة لإصلاح المالية العامة والتباطؤ في تنفيذ إصلاح قطاع الكهرباء وفق المعايير الدولية، لعبت دوراً حاسماً في تراجع التصنيف.
تتوالى الاستحقاقات الاقتصادية والمتابعة الدولية للشأن اللبناني، ولن يكون آخرها الزيارة المرتقبة للمبعوث الفرنسي بيار دوكان مطلع الشهر المقبل لمتابعة ملفات “سيدر” والمسار الإصلاحي المرتبط بها. وليس معروفاً بعد ماذا في جيب السلطات اللبنانية من إصلاحات تلاقي بها الزائر الفرنسي للحث على الإفراج عن الأموال الموعودة. وهنا أيضاً وأيضاً العين على خطة الكهرباء، مضمونها وما نُفّذ منها، كونها الحجر الأساس لإصلاح المالية العامة وإطلاق دورة النمو من خلال الاستثمارات في البنى التحتية.
هناك مع الأسف من يقلّل من أهمية التصنيف الإئتماني، ويحاول التملص من إصلاحات “سيدر”، ويخوض تحت عباءة “المسؤولية الوطنية” حملة إعلامية إستباقية ضد “التهويل” و”صناعة اليأس” مغرقاً السوق بأدوات إعلامية و”خبراء” إقتصاديين لتحقيق هذا الغرض. بينما المسؤولية الوطنية الحقيقية إنما تقضي بمواجهة اللبنانيين بحقائق الأمور ومحاسبة من أخطأ من أصحاب القرار. هذا من مقتضيات الديموقراطية والحوكمة الرشيدة. أما أبواب الأمل، فوحدها الإصلاحات تفتحها… إصلاحات الأفعال لا الأقوال.
وقبيل منتصف الليل، وفي حين أكد وزير المال علي حسن خليل لوكالة “رويترز” إلتزام لبنان بالإصلاحات وتعامله “بمسؤولية مع تقرير فيتش بشأن التصنيف الائتماني”، جاء تقرير “ستاندرد آند بورز” رغم الحفاظ على مستوى تصنيفه للبنان ليعرب عن توقعاته بأن “تواصل احتياطيات النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان المركزي التراجع على أن تبقى كافية لتمويل حاجات الحكومة للاقتراض والعجز الخارجي للبلاد على مدار العام المقبل”، مع إشارة الوكالة الدولية إلى توقعها “أن يبقى النمو في لبنان ضعيفاً لكنه سيتحسن تدريجياً ليصل إلى 2.2% بحلول 2022 مدعوماً ببرنامج استثماري حكومي وانحسار التوترات في سوريا”.
وبالتزامن، أصدرت وزارة المالية اللبنانية بياناً أوضحت فيه أنّ “ستاندرد أند بورز” بلّغت الوزارة أنّ قرارها إبقاء تصنيف الدولة اللبنانية على ما هو عليه (B-) مع نظرة سلبية، إنما استند إلى “نقطتين أساسيتين”، الأولى تتمحور حول “بدء الإصلاحات الهيكلية في المالية العامة في موازنة 2019 والتي ستستكمل بإصلاحات جديدة في موازنة 2020 وخصوصاً في الجمارك والمشتريات ونظام التقاعد والتهرب الضريبي وقطاع الكهرباء، ما سيخفض عجز الموازنة برأيها تدريجياً إلى 4.8% من الناتج القومي في العام 2022″، والنقطة الثانية ترتكز على توقع الوكالة الدولية “إستمرار قدرة مصرف لبنان على الدفاع عن الليرة من خلال احتياطه”، مع التأكيد أيضاً على “ضرورة تنفيذ الإصلاحات المرجوة بوتيرة سريعة وخلق الجو السياسي المناسب لتحريك العجلة الإقتصادية”.
وعن تقرير “فيتش”، أوضح البيان أنّ خفض تصنيفها للبنان أتى “نتيجة التحديات الناجمة عن ازدياد ضغط التمويل الخارجي من جراء انخفاض تدفق الودائع في القطاع المصرفي والبطء في تطبيق خطة الكهرباء”، في وقت لحظ تقرير هذه الوكالة الدولية “العمل الجدي حول موازنة 2020 وإلتزام الدولة باقرارها في وقتها، ولكن بقيت تشكك بالتقلبات السياسية المتكررة التي قد تؤدي إلى التأخر في تنفيذ السياسات الإقتصادية المرجوة”.
وخلص بيان “المالية” إلى الإقرار بأنّ “هذا التصنيف هو تذكير للبنان بأنّ عمل الحكومة ليس ترفاً بل ضرورة قصوى في المرحلة المقبلة، بما يتضمن من أهمية مناقشة موازنة 2020 وإحالتها إلى مجلس النواب، والإسراع في تنفيذ خطة الكهرباء، ومكافحة التهرب الضريبي وإطلاق العجلة الإقتصادية، وتخفيض العجز وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية”.
“نداء الوطن”