بيار ابي صعب:
منذ سنوات، نتفرّج على أهوال ما سمّي زوراً وبهتاناً «الربيع العربي»، ونخشى من أن يكون الآتي أعظم. هذا«الربيع» المنحول، كان يفترض به أن يحمل لشعوبنا العدالة والتنمية والحرية والديمقراطيّة وشرعيّة التمثيل، لكنّه لم يأت لنا سوى بالويلات والحروب الأهليّة، وشكّل قفزة هائلة إلى الوراء، على كل الصعد السياسية والاقتصاديّة والفكرية والحضاريّة. وُعود «الربيع» تمخّضت عن كابوس عظيم، جرّنا إلى أحط دركات التخلّف والانحطاط. فتّت مجتمعاتنا، ومزّق شعوبنا، وأطفأ مناراتنا الواحدة تلو الأخرى. كان يفترض بها أن تكون «ثورة على الاستبداد»، فإذا بها تعزّز أنظمة رجعيّة وظلاميّة متخلّفة، تريد الآن أن تخفي جاهليّتها تحت قشرة «اصلاحيّة» ركيكة. «الربيع» المزعوم فتح علينا أبواب الجحيم، زادنا انغلاقاً وتعصّباً وتبعيّة وفقراً. وبين إخوان وعسكر، بين سلفيين وفلول، بين عملاء وأتباع، تمخّض عن «بدائل» سياسيّة أكثر استبداداً وفساداً وتخلّفاً. أتت «الثورة» بمسوخ يستمدّون شرعيّتهم السياسية لا من «شعوب الربيع العربي»، بل من استعمار استفحلت هيمنته، وتنامت وصايته، وترسّخت قواعده العسكريّة، وباتت تدخلاته مباشرة في شؤوننا، وزادت قدرته على التحكم بثرواتنا وإخضاعنا وتدجين نخبنا، وإرغامنا على التنازل عن آخر حقوقنا الوطنيّة والقوميّة.
نعم، هذا كل ما تبقّى اليوم من الحلم الذي تفتّح في تونس ذات 14 جانفي 2011. لكن أخطر عواقب هذا الحلم المجهض أنّ «النظام العربي» هذه المرّة، بات يتربّع بوضوح فاجر، تحت جزمة «إسرائيل». إنّ الشعوب العربيّة المتخبّطة في مستنقع الفتن والحروب المذهبيّة والعصبيّات، معرّضة لفقدان مناعتها الأخلاقيّة والقوميّة. المطلوب منها نسيان فلسطين، وشطبها من المعادلة، وإنزالها من قائمة الأولويّات، واقتلاعها من الوجدان الجماعي… هناك حكومات وأحزاب وجمعيّات، مهرجانات وهيئات ومنظمات، جامعات ومراكز ثقافيّة، برامج تدريب وتبادل، مؤسسات دعم وتمويل، تشتغل على تزوير الذاكرة وإعادة كتابة التاريخ. المطلوب ألا تبقى فلسطين البوصلة والقضيّة المركزيّة، بل أن تصبح «مسألة» بين المسائل المطلوب حلّها بشكل ما. و«إسرائيل» لم تعد عدوّاً في الخطاب الرسمي العربي الذي ينعكس على الاعلام المهيمن ومتفرعاته. بل يمكن أن تكون «حليفاً» إذا اقتضت الظروف… في مواجهة إيران مثلاً! هذا هو المنطق الذي طغى على الاعلام السعودي ومشتقاته وصولاً إلى لبنان، في اليومين الماضيين. هذا الاعلام، كمعظم الاعلام الغربي «الديمقراطي»، تبنّى رواية العدو الكاذبة للمواجهة الصاروخيّة التي دارت ليلة أوّل من أمس بين سوريا والعدو في الجولان المحتل. كأن الحرب هي بين «إيران وإسرائيل على الأرض السوريّة»، لا مواجهة شرسة يخوضها العرب وحلفاؤهم ضدّ الكيان الغاصب.
لا يقف الأمر هنا. فالصاعق في ما شاهدنا وقرأنا، هو طريقة تعامل الاعلام العربي المهيمن، مع العدو الاسرائيلي بين الحياديّة «المهنيّة» والتفهّم، وصولاً إلى التعاطف وحتّى التضامن الصريح. محطّة lbci اللبنانيّة مثلاً، سمحت لنفسها بالتعامل مع جيش الاحتلال بصفته طرفاً عاديّاً من أطراف النزاع، فبثّت (قبيل المواجهات) تقريراً من داخل «اسرائيل» يعكس وجهة نظر العدو في منتهى الطبيعيّة، ويطمئننا إلى جهوزيّته التامة لمواجهة «أي اعتداء». لكن هذا ليس شيئاً بالمقارنة مع عبد الرحمن الراشد أحد رموز الانتلجنسيا السعوديّة الجديدة التي ترافق «النهضة الديمقراطيّة والحركة الاصلاحيّة» لمحمد بن سلمان. لقد كتب في «الشرق الأوسط» يريد اقناعنا أن المواقف تتغيّر «في السياسة بحسب ضرورات المصلحة». في مطلع مقالته يتظاهر الكاتب بالحيرة وبالحرج وهو يطرح السؤال «مع من تقف: إيران أم إسرائيل؟». لكنّه سرعان ما يحسم أمره: «لو سألنا غالبيّة الشعب السوري، لَهتفَ مؤيّداً إسرائيل في ضرب القوات الايرانيّة وميليشياتها في سوريا». إذا صدّقنا الكاتب السعودي الليبرالي، فإن إسرائيل جمعيّة خيريّة، لا تفعل سوى مدّ «يد العون» للشعب السوري المقهور الذي أراد آل سعود أن يبنوا له نظاماً ديمقراطيّاً على شاكلة نظامهم ففشلوا. ثم ماذا فعلت لنا إسرائيل كي نعاديها في النهاية؟ فهي ليست سوى ممثلة لـ«محور الخير»، «دولة حضاريّة، مسالمة، معتدىً عليها من قبل محور الهمجيّة والارهاب»! لم يبق سوى أن نعبّر لبني صهيون عن امتناننا العميق، متنازلين لهم عن فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني لنشكرهم على كل ما يفعلونه من أجلنا. سامح الله كل من فهم اللعبة بالمقلوب، مثلنا، واختار أن يقف إلى جانب إيران (رغم أنّها ليست دولة ديمقراطيّة وعلمانيّة مثل السعوديّة)، «فقط» لأنّها أخضعت إسرائيل، وساهمت في تحطيم أسطورتها، باسم قضيتنا المركزيّة (سابقاً) فلسطين!
يبقى الفصل الأبشع في هذه المهزلة الدنيئة، في الصحافة اللبنانيّة التي تقف في مجرور الانحطاط السعودي. وهنا من الصعب أن نقبل، من الصعب أن نسامح. جريدة «النهار» فلشت بالأمس على صفحتها الأولى بفخر واعتزاز صورة «دبابات الميركافا» التي حددت لقرائها أنها «من الجيل الرابع». وعنونت في ما يشبه النشوة: «أوسع قصف إسرائيلي لسوريا منذ حرب 1973». مثل «معاريف» وصحف أخرى في الكيان الغاصب، تبنّت جريدة غسان تويني بالكامل رواية العدو وموقفه في الصراع، ولم تحاول أن تخفي تعاطفها معه في مسعاه الحميد من أجل الانتصار للحق على الباطل. كل ذلك أيّاماً قليلة قبل الذكرى السبعين لنكبة فلسطين. ونحن علينا أن نضبط أنفسنا، ونحترم «حريّة الرأي» ونراعي أصول «الزمالة» ونسكت؟ تريدون ما هو أفظع؟ لننتقل إلى «يديعوت أحرونوت» عفواً «المستقبل». جريدة الرئيس الشهيد رفيق الحريري عنونت بالأمس وقد بلغت حالة الانتعاظ نفسها: «إسرائيل تدكّ «الخطوط الحمر» وإيران تهدّئ». أما الخريطة التي نشرتها على الأولى أيضاً، فقد اختفت عنها فلسطين ولم يبقَ إلا… «إسرائيل»! «لا يمكن ان يُفهم من سلوك الصحيفة ــــ كما جاء في بيان «الحزب الديمقراطي الشعبي» ــــ إلا التماهي مع موقف الأنظمة الرجعية العربية، وخاصة الخليجية، السائرة في الركب الاميركي والغارقة في التطبيع مع العدو على كل الصعد».
«أوراق التوت لقد سقطت»، بتعبير مظفّر النواب. بالأمس كان في أكشاك بيروت صحيفتان «سياديّتان» رماهما «النأي بالنفس» في أحضان إسرائيل. احداهما ملك النائب المنتخب سعد الحريري الذي قد يكلّف في الأيّام المقبلة تأليف الحكومة اللبنانيّة الجديدة. كلا! ليس الأمر مقبولاً. ليس في لبنان. ليس الآن. اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا ينبغي أن نصمت، لا يمكن أن نسامح. إن طريق فلسطين تمرّ أيضاً في القضاء على بؤر الانحطاط والعمالة. فليخرس إعلام العار. بالوسائل القانونيّة والمهنيّة والسياسيّة إذا أمكن.