بعد اليوم، سيتذكّر الجميع أنّ اختيار رئيس للحكومة ليس الأقوى في طائفته، سيبرِّر لاحقاً ألّا يكون رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي كذلك. طبعاً، وفقاً لموازين القوى السائدة عند كل استحقاق
وبالتأكيد، هذا الأمر لا يريده الرئيس ميشال عون الذي قاتل للتخلّص من نظرية رؤساء الجمهورية الذين «يأتي بهم الآخرون»، كما لا يريده الرئيس نبيه بري الذي استطاع البقاء في موقعه دورات متعددة، لأنه الأقوى تمثيلاً لطائفته.
مشكلة قوى السلطة مع الحريري لا تتعلق بشخصه، بل بتركيبة الحكومة التي يريدها. فهو يصرّ على تركيبة الاختصاصيين المستقلين… فيما فريق السلطة لا يسعى إلّا إلى حكومة يديرها السياسيون في نهاية الأمر، مع تغطية صُوَريّة بالتكنوقراط…
وكانت الوساطة الأخيرة مع الحريري للوصول إلى نقطة وسطى هي تلك التي قادها بري، في النصف الأول من الأسبوع الفائت. كان الطرح يقضي بالاستعانة بوزراء «لايت» يمثلون أحزابهم، وبعدد محدود.
لكنّ الحريري لم يبدِ الليونة الكافية حول هذه النقطة، علماً أنّ هناك لغمين إضافيين كانا يترصّدان بعملية التفاوض، وهما: البيان الوزاري ومسألة الانتخابات المبكرة.
وثمة مَن يقول: ليس الحريري هو الراغب في التشدُّد. فإجمالاً، هو معتاد على التسويات مع شركائه في صفقة العام 2016. بل إنه يدافع عن النهج المتّبع على مدى 3 سنوات مضت.
وقد عمد الحريري إلى مخاصمة حلفائه السابقين في «القوات اللبنانية» والكتائب والحزب «التقدمي الاشتراكي» وسُنّة 14 آذار، وما زال يوجّه اللوم إليهم، لأنهم «زايَدوا عليه» أمام الأميركيين والسعوديين، وطالبوه بتصحيح النهج.
وفي عبارة أوضح، انّ الحريري يرفض اليوم تمثيل القوى السياسية في أي حكومة يترأسها، لا اقتناعاً منه بالتكنوقراط المستقلين، بل لأنّ الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية باتت تضع شروطاً قاسية لمساعدة لبنان:
إمّا أن تُشكلوا حكومة تكنوقراط من مستقلين تلتزم بمعايير الشفافية ومحاربة الفساد وتستجيب لمتطلبات «سيدر» وشروط الجهات المانحة، وإمّا أن يتخلّى المجتمع الدولي عن لبنان في أحلك ظروفه، ويدعه يسقط تحت وطأة الكارثة التي يُقبِل عليها سريعاً.
وعندما انعقد مؤتمر أصدقاء لبنان في باريس، وأصدر توصياته الصارمة في هذا الاتجاه، أدرك الحريري وأركان السلطة على حدّ سواء أن لا مجال لاستمرار المماطلة والمراوغة، لأنّ المجتمع الدولي ليس في وارد التساهل مع لبنان هذه المرّة.
ولكن، حتى الساعة، ما زالت قوى السلطة تراهن على أنّ المجتمع الدولي لن يسمح بانهيار لبنان لضرورات مختلفة، منها عدم تدفق النازحين نحو أوروبا. ولذلك، تستمر هذه القوى في المماطلة ورفع السقوف.
وعلى رغم من أن مؤتمر أصدقاء لبنان الذي انعقد أخيراً في باريس حذّر من بلوغ لبنان «الانهيار الفوضوي»، فإنّ قوى السلطة في لبنان تقول إنها تلمس حرصاً فرنسياً على عدم سقوط لبنان بأي شكل من الأشكال.
كما أنها تفسِّر إيفاد واشنطن لديفيد هيل الديبلوماسي إلى لبنان، بدلاً من ديفيد شينكر المتشدّد، رسالةَ ليونة منها. وهذا ما يدفعها إلى مزيد من المناورات.
وتقضي المناورة الأخيرة بتسويق شخصية توحي بالتكنوقراط، لتشكيل حكومة توحي بالتكنوقراط، فلا تستفزّ أحداً في الداخل ويوافق الخارج على منحها فرصة، في اعتبارها أفضل الممكن حالياً.
وفي عبارة أوضح، يفكّر فريق السلطة في حكومة يكون فيها مستوى نفوذ «حزب الله» أدنى من مستوى نفوذه في الحكومة المستقيلة. وفي اعتقاده أنّ هذا سيرضي الولايات المتحدة والسعودية في الوقت الحاضر، لأنهما لا يستطيعان عزل «الحزب» تماماً.
وقد جاءت صورة دياب ملائمة لتسويق الفكرة، خصوصاً لجهة كونه أكاديمياً من الجامعة الأميركية التي تحمل رمزية معينة، كما أنها نواة صلبة في انتفاضة 17 تشرين الأول. وتمّت تسمية دياب في اللحظة التي كان هيل يَصل فيها إلى بيروت، من أجل فرضه أمراً واقعاً.
ويبدو أنّ هيل لم يتلقّف مسألة التكليف بتشنّج. وأساساً، يحرص الأميركيون على التأكيد أنهم لا يقحمون أنفسهم في شؤون لبنان الداخلية. ولكن، هناك معيار لا يمكن تجاوزه إذا كان لبنان يريد الاستحصال على دعم الولايات المتحدة، خصوصاً على المستوى المالي والاقتصادي، لتجاوز الكارثة.
والولايات المتحدة تقود الرأي في ما يتعلق أيضاً بأيّ دعم فرنسي أو أوروبي أو سعودي للبنان. ومن دون هذا الدعم المتعدد المصادر، سيكون لبنان معرّضاً لخطر وجودي. وفي هذا المجال، حتى «حزب الله» يدرك استحالة إدارة الظهر للولايات المتحدة.
وحتى الآن، لم يفرض الأميركيون عقوباتهم على لبنان. فقط فرضوا عقوبات جزئية على «الحزب»، وما زالوا يتريّثون في توسيعها لتشمل حلفاءه. ويعرف الجميع أنّ واشنطن، إذا قررت جدياً فرض عقوبات على الدولة اللبنانية، فإنّ انهيارها يصبح مسألة ساعات.
لقد أبلغ هيل الى مَن يعنيهم الأمر أن المحكّ سيكون تركيبة الحكومة الموعودة، والتي يجب أن تتجاوب مع تطلعات المجتمع الدولي والشعب اللبناني في الإصلاح والشفافية والاستقلالية… وإلّا فعلى لبنان أن يواجه مصيره بنفسه.
وهكذا، فلا خيارات كثيرة أمام فريق السلطة. والرئيس المكلّف وعدَ بحكومة خلال شهرٍ أو ستة أسابيع. وفي الحقيقة، هذه هي المهلة القصوى التي يتحمّلها البلد، مع تَسارع التقارير السلبية وتنامي الاتجاه نحو الكارثة.
إذا واصَل هذا الفريق نَهج المراوغة والمراهنة على كسب الوقت وخداع المجتمع الدولي والسعي إلى إسقاط الانتفاضة، فالعواقب وخيمة هذه المرة.
وسيواجه لبنان استحقاقات بالغة الخطورة بدءاً من كانون الثاني. وتحذيرات جنبلاط وسواه من خطر المجاعة لم يعد فيها الكثير من المبالغة.