رمزيّة التغيير في موقف الرئاسة الأميركيّة مهمّة بالتأكيد، والإجراءات الفعليّة لنقلِ السفارة الأميركية إلى القدس بعد سنتين تنقل الرمزية الى الميدانية. إنّما الأخطر هو أنّ ترامب أقحَم ما سمّاه بالواقع والواقعيّة على الشرعية الدوليّة التي رافقت الجهود التي بُذلت لعقود في شأن النزاع العربي – الإسرائيلي بما يُهدِّد بتقويض مبادئ أساسية في علاقات الدول والقانون الدولي.
كلّ هذا يتطلب تحرّكاً من نوع آخر لا يتوقّف عند الشعارات والمظاهرات والتحذيرات والنَّدب والعتاب والمزايدات في شأن مركزية القدس في المشاعر الإسلامية العربية منها والإيرانية والتركية وغيرها.
أولى الخطوات تتطلّب تفنيد الكلام الذي صَدر عن الرئيس الأميركي وملء الفراغ. فهو لم يتحدَّث عن القدس «الموحَّدة» عندما اعترَف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهذا يعني أنّه تفادى السقوطَ في الإرادة والإصرار الإسرائيليَّين بأنّ عاصمة إسرائيل هي «القدس الموحّدة».
قال إنّ «هذا ليس أكثر أو أقلّ من الاعتراف بواقع» على الأرض، لكنّه لم يُميِّز بين القدس الغربيّة عاصمة الأمر الواقع لإسرائيل حيث المواقع الإسرائيلية الحكومية، وبين القدس الشرقيّة التي تُريدها دولة فلسطين عاصمةً لها في إطار التسوية السِلميّة وتواجه الرفض الإسرائيلي القاطع.
وعليه من المهمّ الاستفادة من الغموض في إعلان ترامب لملءِ الفراغ بما هو في صالح فرضِ الأمر الواقع بالتحدّث بلغةِ القدس الغربيّة كعاصمة لإسرائيل والقدس الشرقية كعاصمة لفلسطين في حملةٍ عالمية تَرفع الشرعية الدوليّة في وجه سياسة الإقرار بالواقع على حساب الأعراف والمبادئ كي لا تغلب شريعة الغاب على القوانين التي تنظّم العلاقات الحضارية.
الأهمّ، أنّ تكفَّ الأطراف العربية عن التظاهر بأنّها فوجئت، وأن تتوقّف عن أنماط ردودِ الفعل بعد فوات الأوان. هناك خطة يتمّ وضعُها – يُفترض الكشف عنها السَنة المقبلة – لتسوية مبتورة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، قوامُها دويلة فلسطينية مشتَّتة بلا تواصل، حدودها مؤقّتة، عاصمتُها شوارع مقتطعة بقرب القدس يقال إنّها «ابو ديس»، قوامُها المساعدات الاقتصادية والترضية المالية، دولة مجرّدة من السلاح والسيادة.
إسرائيل شريك في صياغة هذه التسوية ويقال إنّ هناك أطرافاً عربية ضالعة في التفاوض عليها. فليكُن الانخراط عملياً وواقعياً وصادقاً ونزيهاً كي لا تفوت الفرص في طيّات المكابرة أو تأتي البراغماتية في كفنٍ فلسطيني ترفعه أكتاف أميركية وعربية على السواء.
بعض الأصوات التي ارتفعت مندِّدة بإعلان دونالد ترامب اعترافَه بالقدس عاصمة لإسرائيل طالبَت أن تمضي الولايات المتحدة في لعِب دور «الوسيط النزيه» بين اسرائيل وفلسطين.
واقع الأمر أنّ هذا الوصف كان دائماً زائفاً وخاطئاً لأسباب منطقيّة، وهي أنّ بين الولايات المتحدة وإسرائيل تحالفاً استراتيجياً وعلاقةً عضوية تمنَع أميركا من أن تكون «وسيطاً نزيهاً» بين العرب وإسرائيل. فلا مجال أبداً لأن تكون الولايات المتحدة «حياديّة» في المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية.
دونالد ترامب نفسُه سبقَ وتحدَّث عن رغبته بأن تكون الولايات المتحدة «محايدة» أثناء الحملة الانتخابيّة، فقامت الدنيا عليه بالذات من الأوساط اليهودية الداعمة له. فاضطرّ للتأقلم وأوكل إلى صهره اليهودي جاريد كوشنر ملفّ إيجاد معجزة حلّ النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.
جاريد كوشنر واضح الانتماء والأولويّات، وهو يعتقد أنّ الباب الأساسي للحلّ يَكمن في الكتلة السنّية العربية بقيادة سعودية بحيث يكون مشروع التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية جزءاً من تسوية إقليمية ودولية مع إسرائيل. كوشنر يُفكّر بلغة الإغراءات المالية لإقناع الفلسطينيّين بالقبول بالدولة المبتورة ذات الحدود المؤقّتة التي لها رائحة الديمومة، وهو يفكّر أيضاً بلغة العقوبات الاقتصادية في حال رفَضَ الفلسطينيون الإذعان للصفقة.
كوشنر لا يأتي بتفكير ثوري في السياسة الأميركية نحو اسرائيل ونزاعها مع العرب، وإنما مواقفُه منطقية في سياق المواقف المتراجعة لكلّ الإدارات السابقة منذ أن صَنع الرئيس جيمي كارتر السلام بين مصر وإسرائيل على أساس اتفاقيات «كامب ديفيد» ومنذ أن اتّخذت إدارة جورج بوش الأب إجراءات عقابية ضدّ إسرائيل بسبب المستوطنات.
بعد ذلك أتى التراجع بصورة تدريجيّة ومتماسكة عن المبادئ الأساسية في المواقف الأميركية، بما فيها التقويض الذي أصابَ تبنّي الرئيس جورج دبليو بوش حلّ الدولتين في قرار تاريخي لمجلس الأمن الدولي في مبادرة أميركية.
كان ذلك آخر إنجاز جدّي في السياسات الأميركية. فالرئيس باراك أوباما دخل البيت الابيض متأبطاً وعوده الغزيرة بحلٍّ عادلٍ للنزاع الفلسطيني – الاسرائيلي وغادرَه بعد 8 سنوات بقرار اجترَّ اعتبار المستوطنات الإسرائيلية غيرَ مؤاتيةٍ للسلام. بل إنّ باراك أوباما رفضَ مقترحات عملية لقرار نوعي في مجلس الأمن يضع أرضيّةً راسخة لصنع التسوية الإسرائيلية – الفلسطينية، وذلك تحت ذرائع ومبرّرات انتخابية.
فلا فكرة الدولة الفلسطينية المؤقتة، ولا الدولة الفلسطينية بحدود مؤقّتة، فكرة جديدة، إذ إنّ وزير الخارجية السابق كولن باول تحدَّثَ عن الفكرة عندما كان وزير خارجية إدارة بوش الابن، في حديث مع كاتبة هذا المقال أثار حينذاك ضجّة عالمية.
ولا فكرة معالجة النّزاع الفلسطيني من الناحية الاقتصادية والمالية بتجريد من السيادة اختراعٌ جديد لأنّ وزير الخارجية جورج شولتز تحدَّثَ عن هذا الحلّ عندما كان في إدارة بوش الأب، ولا جديد على اسرائيل اعتبارُ غزّة نقطةَ انطلاق الدولة الفلسطينية ورفضها الفعلي لمبدأ التواصل مع الضفّة الغربية Continguity.
يَكمن الجديد في أمرين لدى إدارة ترامب وفريق جاريد كوشنر، هما: مبدأ الصفقة الكبرى Grand Bargain بين إسرائيل والكتلة السنّية بما يشمل المسألة الفلسطينية. والجرأة على الانطلاق من أصعب العقد، أي عقدة القدس التي كانت الجهود السابقة قد وضَعتها في المحطة الأخيرة.
نائب الرئيس مايك بنس هو من أكثر الداعمين لِما قام به الرئيس دونالد ترامب، وهو مؤمن شخصياً بأنّ القدس هي عاصمة إسرائيل الأبديّة. إنّه في طريقه الى الشرق الاوسط قريباً للقاء القادة، وينوي مخاطبة الكنيست الإسرائيلي، ولذلك أراد إعلانَ الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل في جيبه. معارضة وزير الخارجية ريكس تيليرسون للفكرة لا تهمّ البيت الأبيض الذي يَعتبر تيليرسون عابراً في هذا المنعطف.
رأيُ وزير الدفاع جيمس ماتيس لا يُقلِق أركان البيت الابيض لأنّهم على ثقة من أنّ الشارع العربي والإسلامي لن يثورَ، والانتفاضة الفلسطينية الثالثة لن تأتي، وإنْ أتَت فلن تدوم، وإذا دامت ستكون في مصلحة استخدامها إسرائيلياً لتبرير الإبعاد القسري للفلسطينيّين والذي يشكّل عملياً الحلَّ الوحيد للمشكلة الديموغرافية.
إذا أتت مفاجأة ردود الفعل على غير التوقعات، أكثر ما ستؤدّي إليه هو توطيد تمزيق «حلّ الدولتين» الذي لم تقتنع إسرائيل به من الأساس، بل فُرضَ عليها أميركياً ودولياً. فإسدالُ الستار على «حلّ الدولتين» يبقى استراتيجية إسرائيلية من المستحسَن، في رأيها، أن يساهم فيها أيُّ إجراء يؤجّج الغضبَ مِثل إعلان ترامب اعترافَه بالقدس عاصمةً لإسرائيل. فإسرائيل لا تريد حلَّ الدولتين. نقطة على السطر. وقد حانَ الإقرار بذلك.
مجلس الأمن الدولي سبقَ وأصدر القرارات التي تبنَّت حلَّ الدولتين ورفَضت الإجراءات الأحادية بالذات في القدس. السفيرة الأميركية نيكي هايلي واضحة في دعمها القاطع لإسرائيل ولاعترافِ الولايات المتحدة بالقدس عاصمةً لها.
ما تَجدر مراقبتُه هو تطوّر المواقف الأميركية في مجلس الأمن والجمعيّة العامة ووكالات الأمم المتّحدة من منطلق الاعتراف بالواقع المفروض على الأرض أحادياً وليس من منطلق الشرعية الدولية. إنّها المعركة التي توعَّدت بها نيكي هايلي – معركة نصر إسرائيل في الأمم المتحدة.
السلطة الفلسطينية فوَّتت الفرصة تلوَ الأخرى على نفسها بما في ذلك قدرتها على محاكمة الاحتلال في المحكمة الجنائية الدولية. هدَّدت وتوعَّدت وتراجعت تكراراً. لوَّحت باحتمال حلّ نفسِها كي لا تبقى صمّام أمان لإسرائيل ثمّ استدرَكت بعدما تذكّرت أنّ اتفاقيات «أوسلو» أتت بها إلى السلطة وأن لا اتفاقيات تضمَن لها العودةَ إلى الحكم إذا حردت وغادرت.
أمّا «حماس»، فإنّها المساهم الأكبر في تمكين إسرائيل من الاستفادة من التشتّت الفلسطيني، وهي سلاح خفيّ في يد إسرائيل إذا أرادت أدواتٍ لتبرير الإبعاد القسري عندما يحين زمنه.
المستفيد الأوّل من مواقف الرئيس الاميركي هو إسرائيل، إنّما ما تريده إسرائيل هو دفعُ دونالد ترامب الى الإقرار بالقدس «الموحّدة» عاصمةً لها- وهذا ما سيبقى في كنفِ الغموض الى حين التعرّف على المزيد من الخطة التي يُعدّها كوشنير.
الكلام عن استفادة إيران على حساب السعودية سابقٌ لأوانه، لأنّ إيران أيضاً مطالَبة بأن تُبيِّن معارضتَها الفعلية للتفريط بالقدس، وليس فقط اللفظية. فالعبء على الجميع.
مزايدة روسيا تكاد تُثير السخرية لأنّ روسيا هي التي ضَمنت الجولان لإسرائيل ولها أوثقُ العلاقات معها، فإذا كانت روسيا حقاً عازمةً على منعِ انزلاق القدس موحّدة الى الحضن الإسرائيلي، فلتفعَل أكثر.
تركيا مكبَّلة الأيادي، طليقة اللسان، ذلك أنّ اعتباراتها الاستراتيجية تأتي قبل الإجراءات الفعلية، لذلك ستكتفي بالمعارضة التجميليّة.
الدول العربية، بالذات السعودية ومصر والأردن، هي في صدارة التحدّيات الأميركية، إمّا عبر فرصٍ غير مسبوقة آتية في خطّة تسوية إقليمية، أو في تطوّرات تجرُّها إلى المحاسبة بسبب الهفوات الأميركية.