صحيفة نداء الوطن- نجم الهاشم
لا يمكن فصل طبيعة الصراع الحالي في مخيّم عين الحلوة للّاجئين الفلسطينيين عن مسار الصراع القديم والمستمرّ بين نهجين: نهج الرمز الفلسطيني ياسر عرفات – أبو عمّار، ونهج رئيس النظام السوري حافظ الأسد. هذا الصراع شهد محطات كثيرة ومعارك طاحنة لا تزال مستمرّة بين ورثة النهجين من «حركة فتح» والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، إلى بشّار الأسد و«حزب الله» وسائر مكونات هذا المحور. والإشتباكات التي حصلت في المخيّم ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.
في 12 تموز الماضي أوقفت السلطات اليونانية في مطار أثينا الأسيرة المحرّرة اللبنانية سهى بشارة التي كانت عائدة إلى حيث تقيم في سويسرا بعدما كانت أمضت إجازة قصيرة في لبنان. القرار كان نتيجة عدم السماح لها بالعبور من اليونان ولذلك أعيدت على متن أول رحلة آتية إلى لبنان حيث عادت بشارة وتوجّهت إلى سويسرا عبر خط طيران آخر يمرّ عبر تركيا.
تمثِّل سهى بشارة مرحلة من تاريخ الصراع مع إسرائيل. وهي ربّما كانت من أواخر الذين حملوا هذا الحلم الذي كان يحرّك مشاعر وهويّات كثيرة لتنخرط في هذا الصراع. مرحلة كانت لا تزال القضية الفلسطينية ورمزها ياسر عرفات تجد من يناصرها في كل أقطار العالم، وكان لبنان في قلب هذه القضية بمن كان معها، وبمن واجهها بعد محاولة فرض السيطرة عليه.
قرار غازي كنعان
في 3 أيلول 1998 طوت سهى بشارة عشر سنوات من الإعتقال وعادت الى بيروت بعد وساطة فرنسية نجحت في اخراجها من معتقل الخيام، حيث كانت محتجزة من دون محاكمة لمحاولتها اغتيال قائد جيش لبنان الجنوبي اللواء انطوان لحد. ابتسمت سهى وهي ترفع علامة النصر بيديها لدى خروجها من سيارة تابعة للصليب الأحمر أقلتها إلى مقرّ رئاسة الحكومة اللبنانية في السراي الكبير، حيث استقبلها رئيس الوزراء رفيق الحريري. وكان في استقبالها أيضاً أمين عام الحزب الشيوعي فاروق دحروج وسلفه جورج حاوي.
وسط دهشة عجقة المستقبلين والمحتفلين بإطلاق سراحها، أعلنت سهى أنّها مستعدة من جديد لاغتيال لحد، وشكرت كل الذين ساهموا في تحريرها وعلى رأسهم الرؤساء اللبنانيون الثلاثة، الياس الهراوي ونبيه بري ورفيق الحريري، وفرنسا. وكان لحد أعلن قبل يوم واحد خبر الإفراج عنها لأسباب إنسانية وسلّمها إلى الصليب الأحمر. كما أعلنت الخارجية الفرنسية أنّ باريس تدخّلت لاطلاق سراحها. ومن جهته أكد الحريري للصحافيين أنّ إطلاق سراح سهى تمّ من دون شروط، وأنّ «لدى الأسيرة المحرّرة دعوة للتوجّه إلى فرنسا إذا ما رغبت بذلك».
في الواقع كان هذا الإنجاز من نتائج العلاقة المميزة التي جمعت بين الرئيس رفيق الحريري والرئيس الفرنسي جاك شيراك. لم يكن إطلاق سهى إلّا من ضمن اتفاق ارتضت الإلتزام به ويقضي بانكفائها وخروجها من سياق الأحداث التي حملتها على تنفيذ محاولة اغتيال لحد، والإنتقال إلى العيش في فرنسا وتأسيس عائلة. وهذا ما فعلته سهى والتزمت به، بحيث لم تستثمر ما قامت به في بناء مستقبل يكمّله وإن كانت كتبت لاحقاً تجربتها.
كان تاريخ إطلاق سراحها خطاً فاصلاً بين حياة سابقة وحياة لاحقة، وبين مرحلتين. مرحلة شهدت أعنف العمليات الفلسطينية ضد الأهداف الإسرائيلية، ومرحلة انكفاء هذه العمليات مع انكفاء ياسر عرفات نحو بناء السلام مع إسرائيل في طريق عودته إلى القدس، كما كان يعلن دائماً. وكان هذا التاريخ أيضاً مؤشراً على أنّ هناك مرحلة جديدة بدأت مع تطلّع «حزب الله» تحديداً لوراثة تبنّي مهمة تحرير فلسطين.
عندما أهدى جورج حاوي مسدسه الصغير إلى سهى بشارة حتى تنفّذ عملية اغتيال اللواء لحد، كان لا يزال أميناً عاماً للحزب الشيوعي. تمكّنت سهى بنت دير ميماس في الشريط الحدودي من بناء علاقة عائلية ووظيفية مع عائلة لحد، ودخلت إلى منزله كمدرّبة «أيروبكس» لزوجته، وكانت بعمر 20 عاماً، ونتيجة هذه العلاقة كلّفها حاوي بمهمّة اغتيال لحد. مساء 17 تشرين الثاني 1988 دعت زوجة لحد سهى بشارة لتناول الشاي معها، وافقت. وعند دخول لحد، أطلقت عليه طلقتين من مسدس عيار 5.45 ملم، وأصابت صدره وذراعه، قبل أن يقبض عليها حرسه الشخصي وتُنقَل لاحقاً إلى معتقل الخيام.
كانت تلك العملية من آخر العمليات التي لعب فيها حاوي دوراً رئيسياً. قبل ثلاثة أعوام فقط كان حضر مع المسؤول العسكري في الحزب الشيوعي الياس عطالله إلى عنجر للقاء مسؤول المخابرات السورية في لبنان اللواء غازي كنعان بناء على طلبه. وهناك أفهمهما بقوة خبطاته على الطاولة بأنّ عليهما وقف العمليات الأمنية ضد إسرائيل وجيش لبنان الجنوبي لأنّ هناك قراراً بأن تتولّاها جهة واحدة هي «حزب الله» برعاية النظام السوري. فهما الرسالة والتزما خوفاً من غضب النظام. كانت للقرار السوري الكبير خلفيات تعود إلى ما قبل الثمانينات من خلال الصراع الكبير الذي كان دائراً بين توجّهين يمثلهما كل من ياسر عرفات وحافظ الأسد.
خياران أمام عرفات
كان جورج حاوي قد أطلق مع الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن ابراهيم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية «جمول» بعد أيام على دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت في أيلول 1982، وبعد أقل من شهر على مغادرة عرفات بحراً العاصمة اللبنانية. صحيح أنّ جيش النظام السوري خرج أيضاً من بيروت ذلك العام، وخرجت قيادة منظمة التحرير مع عدد كبير من المسلحين الفلسطينيين، ولكن همّ النظام السوري كان ينصبّ على الطريقة التي يمكنه فيها أن ينتهي من حكاية عرفات وأتباعه.
كانت «جمول» بالنسبة إلى هذا النظام أحد الأذرع اللبنانية الباقية تحت عباءة عرفات، وكان المطلوب وضع حدٍّ لها. ولكن القرار الذي أبلغه كنعان إلى حاوي كان محطّة في سياق أوسع من الأحداث التي كانت بيروت مسرحاً لها، من حروب الشوارع، إلى حروب المخيمات، وصولاً إلى عودة جيش النظام السوري إليها في 27 شباط 1987 بعد اشتباهه بعودة رموز فلسطينية مؤيّدة لعرفات إليها لإعادة بناء قدرات عسكرية وأمنية تابعة لـ»حركة فتح» التي أسّسها عام 1965، وكانت وراء انطلاقة العمليات العسكرية من لبنان التي شكّلت خطراً دائماً عليه وسبباً من أسباب اندلاع الحرب الأهلية.
في 30 آب 1982 غادر عرفات لبنان عبر مرفأ بيروت على متن باخرة يونانية برعاية وحماية أميركية وفرنسية نتيجة مفاوضات شاقة أدارها السفير فيليب حبيب موفد الرئيس الأميركي رونالد ريغن تحت ضغط التهديد الإسرائيلي باقتحام بيروت، وشارك فيها الرئيس اللبناني الياس سركيس ومدير المخابرات في الجيش اللبناني العميد جوني عبده، ورئيس الحكومة شفيق الوزان والرئيس صائب سلام.
كان هناك خياران أمام عرفات: الإبحار إلى جهة مجهولة والإحتفاظ بالقرار الفلسطيني الحرّ وبأن يبقى رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تمثّل هذا القرار، أو التوجه برّاً نحو دمشق ووضع هذا القرار بيد رئيس النظام السوري حافظ الأسد. لم يكن عرفات يغامر في رحلة مع المجهول. كان يمكن أن يذهب مع مقاتليه إلى جزيرة يونانية ولكنّه اختار أن يقبل عرض الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بالتوجه إلى تونس حيث سيتمّ تأمين مقرّ جديد لقيادته بعيداً عن الحدود مع فلسطين. لم يكن يعنيه المكان بقدر ما كان يعنيه أن يحتفظ بسلطاته ورمزيته وكوفيته الفلسطينية.
ولذلك حدّد وجهته وهو على ظهر الباخرة بأنّه ذاهب إلى القدس. وهو كان ربما يدرس اتّخاذ قراره بالإنضمام إلى عملية السلام التي بدأتها مصر مع اتفاقيات كامب دايفد مع الرئيس أنور السادات. كانت زيارته لاحقاً إلى القاهرة مؤشّراً إلى هذا الإتجاه. في مرفأ بيروت كان في وداعه أركان الحركة الوطنية التي كانت تؤيّده، ومن أركانها وليد جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي. وكان أيضاً رئيس حركة أمل نبيه بري الذي ستفترق خياراته لاحقاً عن خيارات عرفات وجنبلاط وحاوي، وسيدخل معه ومعهم في صراع كبير وقف وراءه نظام الأسد.
إغتيال حاوي
بعد سبعة أعوام على خروج سهى بشارة من المعتقل، اغتيل جورج حاوي أمام منزله في بيروت في 21 حزيران 2005. في 2 حزيران اغتيل الصحافي سمير قصير، أحد رموز الإنتفاضة على النظام السوري في لبنان. لم يكن قد مضى إلا أربعة أشهر على اغتيال الرئيس رفيق الحريري في وسط بيروت في 14 شباط من ذلك العام. اغتيالات ثلاثة وضعت في خانة الصراع بين محوري نظام الأسد و»حزب الله» من جهة ومحور القوى المناهضة له التي لها امتداداتها العربية واللبنانية والدولية ومن بينها السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس. يتبع السبت 12 آب: شقّ «فتح» وحرب طرابلس 1983…