ترأس متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، قداسا وجنازا قبل ظهر اليوم، لمناسبة الذكرى السنوية الرابعة عشرة لاستشهاد النائب جبران تويني في كاتدرائية القديس جاورجيوس، وسط بيروت، بدعوة من عائلة الشهيد وأسرة صحيفة “النهار”، في حضور النائب نزيه نجم ممثلا رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، الرئيس حسين الحسيني، نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال غسان حاصباني، النائبين مروان حماده ونديم الجميل، النواب السابقين بطرس حرب وادمون رزق وعاطف مجدلاني ومحمد قباني ورياض رحال، الوزيرين السابقين جورج جريج وسجعان قزي، محافظ بيروت زياد شبيب، مستشار الرئيس سعد الحريري داود الصايغ، رئيسة اتحاد بلديات المتن ميرنا المر ابو شرف، رئيس بلدية الشياح ادمون غاريوس، السيد مسعود الأشقر، اسرة الراحل زوجته سهام وابنتيها ناديا وغابرييلا، نايلة وعائلتها، ميشيل وعائلتها، السيدة شاديا غسان تويني وأسرة “النهار”.
بعد الإنجيل المقدس، ألقى عودة عظة قال فيها: “يا أحبة، قريبا سنعيد لميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بالجسد، سنعيد لتجسد كلمة الله، الكلمة الذي قال عنه يوحنا الإنجيلي الحبيب: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله” (يوحنا 1: 1). وبما أن “كلمة الله لا تقيد” (2تيموثاوس 2: 9)، نجده قد “أخلى نفسه آخذا صورة عبد، صائرا في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب” (فيليبي 2: 7-8) من أجل أن يخلص الإنسان الجاحد. وقد قال المسيح-الكلمة عن نفسه: “أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي” (يوحنا 14: 6)، تاليا، إن ربنا يسوع المسيح هو الكلمة الحقة التي، إن اتبعناها، نعرف الطريق الصحيح ونحصل على الحياة الحقيقية. أيضا، إن اتبعنا كلمة الرب نتحرر، كما قال المسيح الرب: “إنكم إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يحرركم” (يوحنا 8: 31). إلا أن الكلمة الحقة مصيرها الموت دائما، وهذا ما واجه به المسيح اليهود قائلا لهم: “لكنكم تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم… الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله” (يوحنا 8: 37 و40)”.
أضاف: “لا شك في أن كلام المسيح كان مدويا، ووضع النقاط على الحروف، وواجه كل خاطئ بخطيئته، لا ليدينه إنما ليساعده لكي يستيقظ ويعود إلى رشده ويرجع إلى الله، إذ لا أحد يأتي إلى الآب إلا بالمسيح. لكن رؤساء الشعب الدينيين والمدنيين، ألبوا الشعب على الكلمة الحقة، مستخدمين كلام الزور، وشهود الزور، وفي النهاية صلبوه ظانين أنهم بذلك قد أسكتوه. لم يؤمنوا، وهو بينهم، أنه ابن الله، أنه كلمة الله التي “لا تقيد”، لأنهم لو آمنوا لكانوا تحولوا نحو الأفضل، ولكانوا عرفوا أن الموت لن يسكته أو يقيده، إذ إنه سيقوم محطما أبواب الجحيم، وسيكون كلمة مدوية إلى الأبد. لقد أتم اليهود، بالمسيح، الكلام الذي قالوه على إرمياء النبي: “هلم فنفكر على إرمياء أفكارا، لأن الشريعة لا تبيد عن الكاهن، ولا المشورة عن الحكيم، ولا الكلمة عن النبي. هلم فنضربه باللسان ولكل كلامه لا نصغي” (إرمياء 18: 18). أليس هذا ما فعلوه تجاه المسيح؟ عرفوه، وفهموا أنه الكاهن الأول وأنه أحكم منهم بكثير، وأن كلامه نبوي، لا مواربة فيه، فقرروا أن ينموا عليه لدى الرؤساء، الذين سلموه بدورهم إلى القضاء وصلبوه”.
وتابع: “أحبائي، في هذا الموسم المبارك، الذي، كما قلنا، نعيد فيه لتجسد الكلمة، اختطف من بيننا إنسان حبيب، حمل لواء الكلمة وسيفها دون أن يخشى غدر الأشرار، فغافلوه واتفقوا أن يسكتوه، لأن كلمة الحق نزلت كالصاعقة في قلوبهم. لقد أسكتوا جبران تويني خوفا من إيقاظ الحقيقة النائمة في ظلمة العقول والقلوب، هو الذي اتخذ من الديك شعارا، إلا أن صياح الديك كان إيذانا للأشرار بأن يسلموه إلى قضاء الموت. ولكي تصدقوا أن الكلمة الحقة لا تموت، بل يرجع صداها أقوى، إسمعوا ما قاله جبران منذ سنوات طوال، وكأنه يصف الحالة الحاضرة في بلدنا الحبيب، الذي شوهته يد الفساد والخيانة والقمع. قال جبران في زمن التجسد الإلهي، بعد يومين من عيد الميلاد عام 2001: “قبل الحرب وبعدها بقي مرض العهود، كل العهود، والحكام، جميع الحكام، هذا هو السكر، هذه العجرفة التي يختالون بها على عروشهم، ويا لها من عروش مضحكة مبكية. إن الله، ناهيك بالحياة، يعلمنا التواضع، وكل القيم والأخلاق والفلسفات تدعو إلى المحبة وإلى الاعتراف بالآخر والتحاور وإياه، على أساس أن لا أحد يمتلك الحقيقة، وأن الحاكم موجود لخدمة الرعية”.
وسأل: “ماذا بقي من الحق والخدمة والتواضع والشورى والشفافية والعدل والانفتاح والديموقراطية والحرية، ماذا بقي منها في بلادنا؟ الجواب بسيط: لم يبق منها شيء لدى الحكام لأنهم اعتمدوا ما تعتمده الأنظمة التوتاليتارية ذات نظام الحزب الواحد والحاكم الواحد والصوت الواحد والحقيقة الواحدة، عنينا البطش والقمع واحتقار الرأي العام… إلى متى سياسة الخضوع وتسديد الفواتير عن الغير ولحساب الغير؟ إلى متى مصلحة الفرد فوق مصلحة الوطن؟ إلى متى نبقى بلا مشروع وطني قومي لبناني؟ إلى متى الصفقات والعمولات وسياسة توزيع الحصص؟ إلى متى يبقى الشعب ضحية جلاديه؟ إلى متى اغتيال أحلام الشباب… واغتيال الشباب واستمرار نزيف الهجرة؟ إلى متى ندفع ثمن تجاذبات الداخل وتجاذبات الخارج؟ إلى متى نبقى نعتمد سياسة إضاعة الفرص؟ إلى متى يبقى الشعب أسير سياسة طرف متطرف؟ هل نعيش في جمهورية أصنام أو جمهورية دمى؟ إلى متى يبقى لبنان سجينا؟ متى تزول حال النشوة الغبية القاتلة، ويعود التواضع ليسود الموقف؟ متى ينزل الحكام، كل الحكام إلى الأرض، وتتجسد أماني الشعب فيهم؟ متى يعود لبنان إلى لبنان؟” (النهار 27/12/2001)”.
وقال: “ثمانية عشر عاما مضت على هذا الكلام، وما من سامع أو فهيم! ألا تجسد هذه الكلمات واقع حالنا اليوم؟ إلا أن جبران كان قد أعطى الحل كي لا نصل إلى ما وصلوا إليه آنذاك، وما وصلنا إليه اليوم، إذ قال في أيلول من السنة نفسها: “لا شك في أن المرحلة تتطلب وعيا سياسيا كاملا ورص صفوف داخل الحكم بالذات، وبين الحكم والشعب، ولا سيما مع التيارات المعارضة. مطلوب من الحكم والمعارضة الارتفاع إلى مستوى اللحظة التاريخية الحادة والخطرة، والتعالي فوق الأنانيات وسياسة الزواريب، وتوحيد الموقف كي لا يصبح الجسم اللبناني تربة خصبة يستعملها هذا الطرف أو ذاك ساحة قتال وصراع على حساب لبنان وشعبه” (النهار 20/9/2001)”.
أضاف: “ما أخاف المسؤولين، ولا يزال يخيفهم، هو صوت الحق والحقيقة، صوت الشعب الجائع والمريض والمتألم، صوت كل محب للوطن لا للزعيم، صوت كل من لا يريد الهجرة بل البقاء وتأسيس عائلة وعمل في أرض آبائه وأجداده. خافوا من هذا الصوت وما احترموه كما طالب جبران قائلا: “الشعب ليس بالقطيع وليس بالسلعة التي نستعملها حيث نشاء ودون مراجعته أو الوقوف عند رأيه، وإلا نكون قد لجأنا إلى وسائل الأنظمة التوتاليتارية والعسكرية والبوليسية. الشعب يستحق منا الاحترام، كل الاحترام” (النهار 30/8/2001)”.
وسأل: “هل نعيش في جمهورية اصنام ام دمى؟ هذا البلد يحكم من شخص كلكم تعرفونه ومن جماعة تحكمنا بالسلاح، اين الثقافة، والعلم والمستوى اللبناني الذي نفتخر به. شخص يرجع إليه ولا يرجع إلى الأعلى منه. ألا تسمعون ما يطالب به أبناؤنا في الطرقات اليوم؟ يطالبون بأن يلتفت المسؤولون إلى مطالبهم المحقة. لكن كلامهم المحق نجده يواجه بالتعامي أحيانا وبالعنف وإراقة الدماء أحيانا أخرى. يصرخون قائلين أن احتجاجاتهم سلمية وستبقى كذلك، لكن ثمة من يشوه تلك الصورة السلمية متناسيا ما قاله جبران: “إن الشعب اللبناني يفخر بأنه شعب مسالم، سلاحه الوحدة والإيمان والحق والحقيقة، وخصوصا الصمود في وجه المؤامرات ومحاولات زرع الفتنة واليأس في النفوس! وإننا على يقين بأن السلطة محكومة بالإعدام، أما الشعب فلن يكتب له ولوطنه إلا القيامة والانتصار” (النهار 24/5/2005)”.
وتابع: “إن الولادة، يا أحبة، يسبقها مخاض أليم. اقتربت ولادة لبنان جديد يستحقه أبناؤه الذين طال عيشهم لحال المخاض. اللبنانيون الموجودون في الساحات والطرقات اليوم يضحون بالكثير من أجل مستقبل انتظره آباؤهم وأجدادهم ولم يحصلوا عليه، لكن لولا تضحيات الآباء والأجداد لما فتحت الطريق اليوم للخلاص الوشيك. لبنان دوما لم يحافظ عليه إلا من أبنائه، لا من مسؤوليه الذين غرقوا ويغرقون في لعبة صغائرهم التي أوصلتهم والشعب إلى الهلاك. عبر جبران عن هذا الوضع منذ خمس عشرة سنة عندما قال: “للمحافظة على الهوية ينبغي المحافظة على الوطن، واليوم، ولسوء الحظ، لبنان يدفع ثمن أخطاء طبقة سياسية فاسدة ومفلسة، ولولا تمسك الشعب بهويته، لكان زال لبنان منذ زمن. فالشعب اللبناني برهن قدرته على المحافظة على الوطن والهوية بعد مخاضات كثيرة مر بها… يجب أن نتعلم كيف ننتمي إلى الوطن، ويجب إيجاد طبقة سياسية جديدة، وعلى الشباب دفع ثمن التغيير الذي يريدونه وعدم انتظاره من أحد. فالمطلوب هو التفكير والتأسيس للمستقبل وليس العمل على تسديد حسابات الماضي” (النهار 28/2/2004). نعم، يجب أن نتعلم كيف ننتمي إلى الوطن وإليه وحده، وأن نحافظ عليه خاليا من الشوائب، كي نضمن مستقبلا مزهرا ومزدهرا يتحقق فيه حلم اللبنانيين بأن يعيشوا مكرمين في أرضهم”.
وقال: “اللبنانيون، شاباتنا وشبابنا انتفضوا على الواقع المزري وحملوا العلم اللبناني دون غيره، وطرحوا شعار العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد وضرورة المساءلة والمحاسبة وتحرير القضاء من التدخلات السياسية، وطالبوا بتشكيل حكومة من أصحاب الكفاءة والنزاهة والإختصاص. هل هذه مطالب خيالية تعجيزية أم إنها أبسط ما هو مطلوب لبناء دولة؟ يقولون لنا إنه صراع المحاور على أرضنا. هلا كنا أذكياء وحكماء واتفقنا على بناء دولة عصرية مستقلة ترضي طموح شعبنا، متجاهلين ما تطلبه المحاور؟ إذا اتفق جميع اللبنانيين فيما بينهم، وتخطوا خلافاتهم وارتباطاتهم ومصالحهم، هل من قوة تستطيع إحباط جهودهم؟ إذا قطعنا الطريق على الصراعات الإقليمية والدولية باتفاقنا وإصرارنا على إبعاد وطننا عنها، وكلفنا حكومة قادرة على إخراجنا من انحدارنا الجنوني نحو الهلاك، وإذا اتخذنا قرارا جديا بوقف الهدر والسرقة ومكافحة الفساد أنى وجد، وإذا اتخذنا إجراءات جذرية تؤدي إلى استقلالية القضاء ومعاقبة كل مرتكب مهما علا شأنه، وإذا تبنينا شعار “في الاتحاد قوة” وتمسكنا بوحدتنا الوطنية بصدق وبدون زيف أو مراءاة، هل يتجرأ أحد على معاكستنا؟”
أضاف: “إنها مسألة إرادة قبل كل شيء، إرادة التضحية، إرادة التخلي عن الأنانية والمصلحة، إرادة الإنفتاح على الآخر ومد يد الحوار معه والتصميم على الوصول إلى ما يجمع ويوحد عوض إبراز الفروقات والإختلافات. وطننا في حال نزاع وهو ينتظر عملا بطوليا لإنقاذه، يقتضي التخلي عن النفس من أجله، فهلا أقدمنا؟”
وختم عوده: “نعود إلى جبران الذي كتب: “الآلية المطلوبة والمرجوة هي حوار صريح وواضح وفي العمق، بعيدا من التخوين أو التهويل أو التهديد، وحوار جدي خارج إطار المماحكات والنكايات. لا نقبل بأن يعود البعض إلى فتح بعض ملفات الحرب دون سواها من أجل زرع النعرات الطائفية وخلق أجواء تشنج لا يريدها أحد، إلا الذين يريدون الإساءة إلى الوطن ووحدته” (النهار 23/8/2001). الدعوة اليوم هي إلى العودة إلى الوطن، إلى التضحية من أجله حتى بالنفس، كما فعل جبران، لا إلى التناحر والتقاتل، بل إلى التحاور وإيجاد النقاط المشتركة التي تؤدي بنا إلى غد أفضل. عودوا إلى المحبة التي تتأنى وترفق ولا تحسد ولا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق… عودوا إلى المحبة التي لا تسقط أبدا (1كورنثوس 13: 4-8)”.