ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة قداس الميلاد، في كاتدرائية القديس جاورجيوس، وألقى عظة بعنوان “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة”.
وقال: “في هذا اليوم المبارك الذي فيه نعيد لتجسد الإله وولادته من عذراء ليخلص الإنسانية من عبودية الخطيئة، أرفع الدعاء كي يرحم الرب الإله هذا البلد وبنيه ويباركهم وينقذهم مما هم فيه. سمعنا في ختام الرسالة التي تليت على مسامعنا “لست بعد عبدا بل ابن”، هذا الخبر العظيم على لسان الرسول بولس، يذكرنا بقول الملاك الذي بشر الرعاة بميلاد المخلص “لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، إنه ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب” (لو 2 10-11). هذا الطفل الإلهي المولود في مذود قد جاء ليخلص الإنسانية من العبودية ويجعل من كل إنسان أخا له وإبنا لله بالتبني”.
أضاف: “في القديم كان اليهود عبيدا للناموس وقد وضع الناموس لتهذيب سلوكهم وتنظيم حياتهم. عندما تجسد المسيح عمت النعمة وصارت الإنسانية المفتداة بدمه مخلصة ولم يعد البشر تحت لعنة الناموس، بل أصبحوا أبناء لله وورثة للملكوت السماوي. تجسد المسيح الإله وأخلى ذاته آخذا صورة عبد، لينقذ الإنسانية من عبودية الخطيئة والموت ويحررها من كل قيد أرضي زائل. ولد المسيح ليجعل من آدم الترابي إبنا لله لا يتسلط عليه الموت فيما بعد ليجعل منه إلها. يقول القديس مرقس الناسك “لقد صار الكلمة جسدا (أي إنسانا) لكي يصير الجسد (أي الإنسان) كلمة”. ويقول القديس أثناسيوس بطريرك الإسكندرية “لقد صار الإله إنسانا ليصير الإنسان إلها”. ولد المسيح بالجسد لكي ننزع عنا الصورة الترابية ونلبس الهيئة السماوية. هذا يعني أن الرب يسوع إلهنا المتجسد هو قائدنا إلى الملكوت، به نخلص ومعه نرتفع لنجلس عن يمين الله الآب، هذا إن شئنا أن نفتح له القلب وأن نقتبله ونتحد به ونكون شعاعا من نوره وانعكاسا لألوهته”.
وتابع: “إذا نظرنا حولنا وتأملنا في وضعنا اللبناني وفي العالم، لا بد أن نسأل أين نحن من المسيح المتجسد من أجل خلاصنا؟ أين نحن من تعاليمه وما أوصانا به هل نعتبره فعلا مخلصنا وطريقنا إلى الفردوس؟ مشكلة الإنسان أنه لا يدرك أو لا يريد أن يدرك أن الحياة قصيرة وأيامها معدودة مهما طالت، وأن لكل شيء نهاية إلا وجه الله الأزلي. نحن نؤمن أننا نتحرر بالروح القدس الساكن فينا الذي يحرك حياتنا ويدفعنا إلى السلوك المستقيم”.
وسأل: “أين نحن من الإستقامة والصدق والسلوك الحسن؟ الكل يلهث وراء مصلحته ويعمل على إرضاء أناه، والبلد يتخبط والمواطن يئن. ندعي أننا في بلد ديمقراطي تحكمه القوانين، ونحن نتجاهل أبسط قواعد الديمقراطية ونخرق القوانين ونرسي أعرافا لا علاقة لها بالديمقراطية. نعطل البلد وحياة المواطنين أشهرا طوالا من أجل المصالح الخاصة ولا أحد يهتم بالمصلحة العامة، مصلحة الوطن والمواطنين”.
وقال: “يا نواب الأمة ويا أيها المسؤولون، كيف تنامون والشعب يئن من الغلاء والبطالة والفساد، ومن الهجرة والتشرد وشظف العيش؟ الشعب ضحية تعلق الزعماء بالسلطة واستغلال المال العام ولا يرى بارقة أمل. وآخر البدع حكومة الوحدة الوطنية التي هي صورة مصغرة عن المجلس النيابي. كيف ستعمل هذه الحكومة الجامعة للأضداد ومن يحاسبها؟ هل سيحاسبها مجلس النواب وهي تمثله أم الشعب المغلوب على أمره وقد اعتاد الرضوخ والخنوع والتخلي عن دوره؟ لم لا يكون عندنا سلطة تحكم ومعارضة تراقب وتصوب المسار؟ أليست هذه الديموقراطية التي ندعيها؟ مخجل أن يعجز المسؤولون عن التفاهم على حكومة، علما أن هذا العرف يخالف الدستور، لأن مهمة تأليف الحكومة تنحصر بالرئيس المكلف ورئيس الجمهورية وحدهما. وإذا كان تعلقهم بحصصهم ومصالحهم أكثر من تعلقهم بلبنان، فماذا يمكن أن ينتظر منهم الشعب؟ وهل يجوز أن يبقى البلد معلقا على نزواتهم وأهوائهم؟”
أضاف عودة: “مخجل ومعيب أن يكونوا على علم بوضع البلد ولا يفكرون بالتخلي عن تعنتهم من أجل إنقاذه. لذلك نكرر اقتراحنا بتشكيل حكومة إنقاذ مصغرة تضم رجال اختصاص هدفهم الوحيد معالجة الوضع عوض أن يكونوا في مجلس الوزراء من أجل تمثيل أحزابهم وكتلهم. لبنان يكاد يضيع وهم يتناتشون الحصص. بئس السياسة إذا كانت بابا للإستنفاع والوصول على جثة الوطن والمواطنين. هل يدركون الضرر الذي يسببونه؟ التضحية من أجل البلد ليست ضعفا أو انهزاما بل هي دليل على كبر النفس والشعور بالمسؤولية، لأن البلد ليس ملك الزعماء والحكام. البلد لجميع مواطنيه والمسؤولون موجودون لخدمة المواطن، وعوض أن يتنافسوا على الوزارات والمراكز والصفقات، يجب أن يتنافسوا في العمل من أجل خير لبنان وأبنائه”.
وتابع: “في بلدنا يطغى الخاص على العام، والطائفي والمذهبي على الوطني. أملنا أن تسود روح المواطنة على كل عمل، وأن يتمسك اللبنانيون شعبا وحكاما بالإنتماء إلى الوطن والتحلي بالأخلاق التي وحدها تبني الأوطان. نحن بحاجة إلى رواد، إلى حكماء، إلى كرام النفوس وأنقياء القلوب ليبنوا لبنان. يؤسفني القول أن صاحب الضمير الحي والسلوك المستقيم يعتبر معرقلا، وهو مرفوض في هذا البلد. من يرفض هدر المال العام أو لا يتغاضى عن سرقة المال العام إنسان غير مرغوب فيه عند بعض حكامنا. لهؤلاء نقول: نحن نفتخر بأبنائنا الذين يتحلون بهذه الصفات، ونؤكد لهم أن مثل هؤلاء فقط يحافظون على الأوطان ويسهرون على نموها وازدهارها. أما المطبلون والمداهنون والمراؤون وذوو الضمائر النائمة والأيدي الطويلة فهم سبب خراب الأوطان وتدهورها. والمؤسف إنهم خدام المسؤولين الكبار والصغار. لقد وصلنا إلى هذا الدرك من تدهور الأخلاق وانهيار الاقتصاد بسبب من سولت لهم نفوسهم استباحة ما ليس لهم وجني الأرباح على حساب البلد وثرواته. ألم يحن الوقت لضبط النفوس السيئة وكبح جماح جشعها وتطاولها؟ وجاء في الوصايا العشر لا تسرق ولا تشته ما ليس لك. متى ندرك أن الأمانة والصدق ونقاوة القلب والضمير هي فضائل واجبة الوجود في كل إنسان، وواجبة الوجود أيضا الكفاءة والخبرة والعلم والنزاهة. من يمثلنا يجب أن يكون متعلما مشهودا له بالكفاءة والخبرة والنجاح. كما يجب أن يكون ذا رؤية واضحة ويحمل برنامج عمل يساهم في محاربة الفساد المستشري والفلتان والتسيب والتخلف. والأهم أن يكون ذا ضمير حي وكف نظيفة وسمعة مشرفة. هكذا نرى من يجب أن يتولى مهام القيادة والخدمة لأن المراكز والمناصب ليست للمكافأة أو المحسوبية أو “كمالة عدد”. يجب أن نفتخر بمن يمثلنا لا أن نخجل به”.
وقال: “في عيد الميلاد أسأل كل لبناني أن يعود إلى ضميره ويفحص قلبه وينظفه من كل خطيئة وشر وينظر إلى المذود حيث الطفل الإلهي الذي خلص العالم بمحبته وتضحيته، وليكن مثالا لنا في التواضع والمحبة والتضحية. يقول بولس الرسول “حيث كثرت الخطيئة ازدادت النعمة جدا” (رو 5 20). الله لا يغفل خليقته. لذلك لنشبك الأيدي معا ولنتعال على كل أنانية ومصلحة ونتكل على الله مخلصنا لكي يلهمنا كيف نخلص وطننا من كبوته ونحتفل بولادته الجديدة وطنا لكل أبنائه، تعم فيه روح المحبة والأخوة والمواطنة وتسوده العدالة وتحكمه القوانين التي تساوي بين جميع المواطنين، ولا يتدخل فيه أحد في حكم القضاء فيطمئن المواطن إلى حقه ويثق بدولته”.
أضاف: “دعاؤنا أن يبسط الرب الإله سلامه وعدله في وطننا وفي كافة الأوطان، وأن يشرق نوره في قلوب المظلومين والمحزونين والمرضى والمقهورين وكل إنسان يرنو إلى رحمته. كما نسأله أن يعيد إلينا أخوينا المطرانين بولس ويوحنا سالمين وأن يعيد جميع المفقودين إلى ذويهم”.
وختم عودة: “حفظكم الطفل الإلهي المولود في مغارة ليعلمنا التواضع والرحمة وأعاد عليكم هذا العيد المبارك بالصحة والخير والسلام والأمان، وخلص وطننا من كل شر ومحنة ليعود بلد الحرية والديمقراطية والحوار والإشعاع”.