حسام عيتاني:
لنسلّم جدلاً بصحة ما تذهب إليه الحملة المتصاعدة الشدة على الثورات العربية. لنسلّم أن خطة جهنمية كانت مهيأة لتدمير استقرار بلداننا وازدهارها وهناءة العيش فيها ولم تكن تنتظر إلا أن يضرم التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه لتنطلق آلة الفوضى وينتشر الإسلام السياسي والإرهاب.
لنفترض أنه مخطط خارجي، يتوزع واضعوه على طيف سياسي واسع يشمل ملالي إيران المتحالفين مع إرهابيي «القاعدة» و «داعش» بالتعاون مع إدارة باراك أوباما وروسيا البوتينية مع لمسة إسرائيلية واضحة. تحالف الأعداء هذا رمى، بحسب منظّري الحملات على ثورات 2011، إلى زعزعة البلاد العربية وضرب مسيرتها المظفرة نحو المراتب العليا في التنمية والرفاه.
فلنقبل أيضاً أن المؤامرة الكبرى تتلخص بتسليم السلطة في الدول العربية إلى جماعات الإسلام السياسي باعتبارها قادرة على المواءمة بين تقليدية مجتمعاتنا وقيمها المحافظة وبين ضرورات الدول الكبرى من نوع منع تصدير الإرهاب عبر استهلاكه محلياً.
لكن الشيطنة الكاملة للثورات العربية لا تغني عن التساؤل عن طبيعة الأحوال لو لم تقع تلك الأحداث الجسام في الأعوام الستة الماضية. يصعب الاعتقاد أن الأمور كانت لتستمر على حالها مع تقدم مشاريع التوريث في مصر وليبيا واليمن حيث ظهر تعارض المشاريع تلك مع مصالح قوى رئيسة في الدول المذكورة، الجيش المصري على سبيل المثال. ويصعب بالمقدار ذاته تصور بقاء سورية في منأى من غليان جارها العراقي المستمر منذ 2003 ومستسلمة لإعادة الهيكلة الاقتصادية «الإصلاحية» لبشار الأسد الذي لم يُظهر أي درجة من الحساسية حيال المشاركة السياسية أو المصالحة مع فئات عريضة ومهمشة من السوريين.
يضاف إلى ذلك أن شيطنة الثورات، في سياق الثورات المضادة المنتصرة في المرحلة الحالية، لن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء ولن تغير الحقائق التي ظهرت إلى السطح بعد كبت طويل في الأعماق السحيقة للمجتمعات. لقد انكسر القمقم وانطلقت الرياح. فشلت الثورات في تحقيق وعودها، سواء تلك الوعود التي حملها شباب الساحات في تونس ومصر وسورية، أو الوعود التي أطلقتها جماعات الإسلام السياسي، من جهتها، عندما قفزت على الثورات للوصول إلى السلطة، بيد أن ذلك لا يعني أن الدول التي شهدت الثورات كانت لتنعم بالراحة لو لم تشهد ما شهدت بعد 2011.
ومن دون الاستسلام إلى تاريخانية قدرية، ومن دون السقوط في المقابل في نظرية المؤامرة الخارجية والداخلية، يتعين الاعتراف بأمرين: الأول، أن الثورات كانت من العمق والخطر بحيث هددت منظومة السلطات القديمة بأسرها، من السياسة إلى الدين. الثاني، أن العالم الذي رحب ببعض الثورات وتجاهل بعضها الآخر وتآمر على بعضها الثالث، قد تبدل موقفه من قضايانا عما كان عليه قبل خمسة أعوام. تبدل لأسباب كثيرة واحد منها يتعلق بالتغيرات الداخلية وبروز قوى جديدة غامضة التوجهات وغير مجربة يحمل بعضها تصورات مسبقة وعدائية حيال العرب والمسلمين.
قد لا يكون سليماً الاعتقاد أن الموجة المنتهية من الثورات العربية هي مقدمة لموجة جديدة أكثر تنظيما وجذرية، في تكرار لنموذج الثورات الأوروبية المتعاقبة في القرن التاسع عشر، بسبب الفوارق الشاسعة في المعطيات السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية في الحالتين، لكن من الخطأ الفادح الظن أن في الوسع استئناف ما كان قائماً قبل الثورات.