ما بين 21 تموز و3 آب، فرضت حرب جرود عرسال معطيات وفيرة على الداخل اللبناني، وحيال سوريا، كما في علاقة الافرقاء بالحرب السورية. تقطعت اوصال وتمددت اخرى. ليست حرب الجرود حساب ارقام باستعادة اسرى شهداء واحياء وترحيل مسلحين ارهابيين فحسب
على وفرة النتائج العسكرية التي خلفتها حرب جرود عرسال، وافضت الى تصفية نهائية لجبهة النصرة هناك، ثمة بصمات سياسية رافقتها من شأنها ان تترك بدورها آثارا على المراحل التالية، القريبة شأن الحرب المتوقعة في جرود رأس بعلبك ــ القاع، او البعيدة شأن الموقف من «تشريع» التنسيق الامني مع سوريا وقطع صلة الوصل بين المعارضة المسلحة السورية وافرقاء لبنانيين يؤيدونها.
ليست قليلة الاهمية الدلالات المباشرة التي انتهت اليها حرب جرود عرسال:
اولها، ان حزب الله فرضها على الافرقاء جميعا بمن فيهم الدولة اللبنانية، وتحديدا الشق المناوىء له داخلها، وإن هو حظي بغطاء غير مشروط من رئيس الجمهورية ميشال عون. لم يكن ذلك اولى اشاراته الى صلابة تحالفه مع الحزب ودعمه وتأكيده للآخرين مرة تلو مرة ــ لا الى الحزب الذي لا يحتاج الى تبرير ــ الى انه في الرئاسة لا يزال نفسه كما خارجها. ليست الدولة اللبنانية مَن شنّ حرب الجرود، الا انها اعلنت وقف النار وفاوضت ورفضت شروطا وفرضت سواها، ورعت التنفيذ واخرجت مسلحي النصرة. منذ الآن باتت ملزمة استكمال حلقة التطهير بإطلاق يد الجيش في جرود رأس بعلبك ــ القاع لطرد تنظيم «داعش» منها تحت شعار استعادة السيادة على الجرود كلها. مع ذلك يصح اعتقاد البعض بأن الشعار الذي اطلق صفارة حرب الجرود ليس نفسه الذي اضحى عليه عند تنفيذ اتفاق الاجلاء.
الحريري لابراهيم: بدنا نخلص، ونصرالله لابراهيم: لا لبنانيين ولا مخيم عين الحلوة
ثانيها، اخفق رهان الفريق المناوئ لحزب الله على ان حرمان الجيش القرار السياسي لمهاجمة التنظيمات الارهابية في الجرود وتصفية وجودها يتيح امدا اضافيا لابقاء تواصلها مع الداخل اللبناني، من ثم استمرار معركتها ضد نظام الرئيس بشار الاسد. حتى الاشهر الاخيرة قبل اقفال الجيش المنافذ الى الجرود، لم تنقص التنظيمات الارهابية البيئة الحاضنة ولا السبل المختلفة للامداد ولا الغطاء السياسي حتى تحت مسمّى معارضة سورية.
الواضح ان القرار السياسي الذي لم يُعطَ للجيش للاسباب تلك، لم يحتج اليه حزب الله كي يباشر حملة عسكرية في 21 تموز، ثم يحيل استكمال نتائج الحرب على التفاوض منذ 27 تموز، وينتهي الى الحصيلة نفسها التي توخاها في الاصل من الحملة العسكرية، وهي خروج مسلحي جبهة النصرة من الجرود اللبنانية الى ادلب في 3 آب.
ثالثها، لم تعد ثمة خطوط تماس سورية ــ سورية على الاراضي اللبنانية، ولا خطوط تماس سورية ــ لبنانية يشجع عليها الافرقاء اللبنانيون المؤيدون للمعارضة السورية المسلحة، ولا خطوط تماس لبنانية ــ لبنانية في الحرب السورية انطلاقا من الاراضي اللبنانية على نحو ما عناه وجود التنظيمات الارهابية في الجرود كي يمسي ذا وظيفة مزدوجة: مواجهة الاسد في البقعة الجغرافية الممتدة من فليطا الى القلمون والزبداني لتهديد عاصمته وتاليا نظامه، وهو ما اوشكت ان تكون عليه في السنوات الاربع المنصرمة، وفي الوقت نفسه ارباك حزب الله من الداخل اللبناني بغية تعطيل مقدرته على التدخل في الحرب السورية، ونقل الاشتباك معه الى ملعبه في البقاع الشمالي. بسقوط خطوط التماس والالغاء التدريجي لشريط جغرافي معارض امتد من القصير حتى جرود العرقوب، نشأ شريط جغرافي جديد مغاير ظهير للنظام يريحه، بين يدي حزب الله والجيش اللبناني.
رابعها، مقدار الصعوبة التي جبهها المفاوض اللبناني المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم في قيادة التفاوض في المراحل الاربع المتتالية، رافقت الخيارات الصعبة جوانب كثيرة منها. تبلّغ تكليفه التفاوض رسميا في 25 تموز عشية خطاب الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عندما لمح الى «جهة رسمية لبنانية» تتولاه، ولم يكن قد كشف امر التكليف الذي اقترن بصلاحية التواصل مع مَن يقتضي التواصل معه لانجاح مهمته. اول عناصره اعلان وقف للنار في اليوم الثاني للتكليف في 27 تموز. في صلب المهمة التنسيق مع نظراء امنيين سوريين خابرهم المفاوض اللبناني بعدما تيقن من ان دمشق ستكون شريكا اساسيا في تنفيذ اتفاق اخراج النصرة من جرود عرسال: الحافلات سورية، المسلحون سوريون، طريق العبور الى ادلب في الاراضي الواقعة تحت سيطرة النظام، تسلم الاسرى الخمسة للحزب كي يتولى السوريون تسليمهم الى المفاوض اللبناني.
في المرحلة التالية لتبادل جثامين خمسة اسرى للحزب وتسعة لمسلحي النصرة، ادخل مفاوض النصرة في مقايضة تشمل اطلاق ثلاثة اسرى جدد للحزب ضلوا طريقهم في الجرود غداة وقف النار شرطا مستجدا هو ضم 50 مطلوبا من مخيم عين الحلوة: 16 لبنانيا على رأسهم شادي المولوي و34 فلسطينيا وسوريا. حمل ابراهيم العرض الى رئيس الحكومة سعد الحريري بعد رئيس الجمهورية، فابدى موافقة «بس نخلص». رد ابراهيم انه لا يسلّم لبنانيين مطلوبين وخصوصا شادي المولوي نظرا الى تداعياته على المؤسسة العسكرية وبين هؤلاء ــ بعدما تعرّف الى اسمائهم من مفاوض النصرة ــ مَن اطلق النار على الجيش. ابلغ الى الحريري ان مخيم عين الحلوة ليس برسم التفاوض.
على نحو مواز اطلع نصرالله على عرض المقايضة، فرد: لا لبنانيين ولا عين الحلوة.
أُوصِد الباب عندئذ رغم ان المدير العام للامن العام ابلغ الى مفاوض النصرة موقفا يُستشم منه نصف فتحة: الموضوع قابل للنقاش والتفاوض، لكن ليس الآن وليس في ملف خروج المسلحين من الجرود. يمكن الخوض فيه في مسألة اخرى. لكن لن يكون مطلوبون لبنانيون في عداد اي مقايضة.
كان ثمة ما ابلغه ابراهيم الى مفاوض النصرة عندما تقدّم بلائحة الـ50 قبل ان يضيف عليها أفراد عائلاتهم: سوريا شريك في اتفاق الخروج. وافقت على بنوده التي يصير الآن الى تنفيذها. اي تعديل فيها يقتضي العودة الى موافقتها. من دونها لا يطبق الاتفاق، ولا احد يمر في الاراضي السورية الى ادلب. سواء وافقت ام لا، يحتاج القرار الى وقت طويل.
عندما تمسك مفاوض النصرة بمطلوبي مخيم عين الحلوة، لم يتردد المفاوض اللبناني في نفض يديه: اذهبوا ابحثوا عن مفاوض آخر سواي. سأخابر قائد الجيش (العماد جوزف عون) وحزب الله كي يكملوا معكم تنفيذ الاتفاق بلعبة النار. تدبّروا الامر معهم.
(الاخبار)