كتب عبد السلام تركماني.
رمضان هذا العام متميز على اكثر من صعيد في العاصمة الثانية ،خاصة على مستوى الامسيات والسهرات التي خرجت من روتين المقاهي ومتابعة المسلسلات من على شاشات التلفاز ،الى حضور الاحتفالات المتنوعة المتنقلة بين معلم اثري وآخر في المدينة القديمة او على اطرافها ،و قد بات مشهد زحمة السير مالوفا قرب مقهى فهيم في ساحة التل (الذي اعيد افتتاحه مؤخرا ) ومحيط خان العسكر على اطراف منطقة الزاهرية ،حيث تمتزج مشهدية ارتال السيارات المنخرطة في (العجقة) بالمشاة المتجهين الى “أمكنة جديدة-قديمة” سمعوا عنها او قرأوا ، لكنهم في اغلب الاحيان لم يدخلوها من قبل .
ان تجاوب اهالي المدينة بشغف مع الدعوات للمشاركة في الليالي الرمضانية في طرابلس القديمة او السهرات الاجتماعية في وسطها ، مؤشر على بداية تحول نوعي في المزاج الطرابلسي العام ،فالامر ليس استعادة لتقليد السياحة الداخلية الذي فقدته المدينة منذ عقود ،بل هو تاسيس لاعادة ربط ما انقطع من تواصل بين احياء المدينة القديمة والحديثة ، حيث اكد كثيرون ممن حضروا فعاليات رمضانية في التل والزاهرية انهم اكتشفوا من خلالها ،ما تختزنه مدينتهم من تراث واصالة .
مناسبة الحديث هنا “ليالي رمضان ” التي تنظمها جمعية” طرابلس حياة ” في خان العسكر على مدى ايام عدة ،والتي اجتذبت اهتمام جمهورا واسعا ،بدا من كثافة حضوره افرادا وعائلات ،انه متلهف لامسيات نوعية تجعله يعيش ولو لساعات اجواء تراثية وبين جدران معلم اثري تاريخي ، كان في غابر الزمان فندقا يلتقي فيه الوافدون الى المدينة من المناطق البعيدة لتجارة او راحة من عناء السفر ،وبات اليوم صلة وصل بين ماضي المدينة الحافل وحاضرها الكامن ومستقبلها المتوثب ، وواحة التقاء بين عائلاتها وما اسلف من تراثهم الاصيل .
جديد” الليالي الرمضانية في الخان” ،كسرها لقالب التقليد في تنظيم مقاعد الجمهور ، فقد غابت الكراسي المصفوفة بانتظام ، ليحل مكانها مقاعد وثيرة ركنت متواجهة ووضعت في وسطها طاولات ، يلتف من حولها افراد العائلة او الاصدقاء ، كانهم مجتمعين الى مائدة عائلية في منزلهم اوعند مضيفهم .اما الطعام والعصائر والحلويات فمتوفرة في”سوق الاكل “المتوزع مطاعما واكشاك على انحاء الباحة الرئيسية .
هنا يمتزج صخب التحيات والاحاديث والسلامات ، بحركة الجمهور المتنقل ما بين اركان المكان ،فتراه متابعة لعرض فني هنا او منصتا الى الحان الفرقة الفنية هنا ، او متمايلا طربا بشذى صوت المتالق محمد الشعار الصادح باناشيد ومدائح وطرب اصيل تحتضنه حجارة الخان بعطف وحنان .
سكان الحي بداوا يعتادون “حركة الناس الكثيفة” المستجدة عليهم ، وما تضخه من حيوية وحركة ،وواكبوها بفتح ابواب محالهم حتى وقت متاخر من الليل او برفع الزينة الرمضانية وسط الشارع ،هم مرتاحون لهذا الاهتمام بحيهم ، لكنهم ياملون ان لا يكون مؤقتا ومتباعدا ،وقد اكتشفوا كما اقرانهم من سكان “طرابلس الجديدة ” ما “تخبئه ” المدينة القديمة من كنز تراثي وامكانات سياحية و اقتصادية ،يفترض ( لو احسن استعمالها )،ان تكون فرصة هائلة لتطوير مجتمعهم على كافة الصعد.
ونختم بالاشارة الى ان “طرابلس حياة ” التي تراسها السيدة سليمى اديب ريفي ،نجحت في تنظيم نشاط ثقافي فني تراثي ممييز، لا تقف اصدائه عند عتبة الترفيه و الثقافة فحسب ، بل تمتد الى الوعي المجتمعي للذات ، وتساهم كما النشاطات الهادفة الاخرى( التي سبقت وتلك التي ستليها) ، في فتح قنوات للتواصل المباشر بين احيائها ، بين قديمها وحاضرها ، ووضع لبنة جديدة في مدماك بناء مدينة متصالحة مع نفسها ، مؤمنة بقدراتها وامكاناتها ،مدركة لوظيفتها ودورها الوطني. …. وكل رمضان وانتم بخير .