حازم الامين:
الشريط المصور الذي انتشر على الـ «سوشيل ميديا» اللبنانية لطبيب تجميل لبناني شهير ومكرس، يظهر فيه مع سيدة شبه عارية، ويشرح معايير «الجمال النموذجي» لما يجب أن تكون عليه السيدة «الاجتماعية»، كاشف لمفارقة لبنانية في العلاقة مع المرأة. فظهور الشريط لم يكن فعلاً فادحاً، على رغم أن هوية أبطاله ليست مجهولة على الإطلاق، لا بل أن الطبيب هو أحد رموز عالم التجميل اللبناني، ومقصد العشرات من اللبنانيين وغير اللبنانيين الراغبين في «الاكتمال». وفي الوقت ذاته يعلن الشريط عن نفسه بصفته علامة على فهم مختصر لوظيفة المرأة بصفتها موضوع «جمال»، وهو يذهب في ابتذال جسمها إلى حد الإفصاح عنه على نحو لم تفعله الأشرطة المصورة غير «التجميلية».
من الواضح أن شريط الطبيب والسيدة مقبول اجتماعياً، أو هذا على الأقل ما افترضه الطبيب، وهو محق في افتراضه. لكن القبول هنا ليس جزءاً من منظومة قيم متقدمة حررت جسم المرأة من قيود لطالما أثقلته، إنما هو ذهاب في تقييد هذا الجسم إلى مستويات أبعد. إنه الإفصاح الواضح والصريح عن هوية هذا الجسم، وعن وظيفته بصفته موضوع رغبة ذكورية، ولا قيمة له خارج هذه الرغبة.
الشريط ليس ابتذالاً لجسم المرأة فحسب، إنما ابتذال لفكرة المقاومة النسوية لهذا المزاج الذكوري. فالمقاومة تفترض قدراً من التورية ومن سوء الفهم فيما الشريط يقول بوضوح وقوة إن المرأة هنا هي هذه التي في الشريط، وأن جسمها ملك رجل قرر أن يضفي عليه لمسات إضافية. والحال أنه من الظلم القول إن هذا هو لبنان، لكن هذا شيء من لبنان. لا بل هو شيء قوي في لبنان، وإلا لما كان الطبيب قد شعر أن بإمكانه بث الشريط. فهو يدرك أن ذلك فعل مقبول لدى شرائح «حديثة» لا يضيرها أن جسم المرأة موضوع خارجها، لا بل هو موضوع رجال يسعون إلى المواءمة بينه وبين أمزجتهم وشهواتهم المتشكلة في أكثر المواقع تخلفاً ورجعية.
المرأة اللبنانية «الحديثة» هي تلك التي لا خطأ صغيراً في جسمها. هي تلك المستجيبة للمزاج الذكوري الذي أفصح الطبيب عن رغباته. جسم بلا علامات خاصة، ولا يقوى على غير مخاطبة رجال الطفرة ورجال القيم السائدة. جسم غير حرٍ ومقيد بهذه الوظيفة وهذه المهمة. هذه هي مساهمة لبنان في رد المرأة إلى موقعها في هذا المشرق، وهي مهمة غير بعيدة عن تلك التي أدتها تنظيمات أصولية دأبت ومنذ بداية القرن على تحديد مهمة المرأة في «إسعاد زوجها».
الخطوة، أي بث الشريط، مذهلة في وضوحها وفي تعبيرها عن الرغبة في الذهاب في الابتذال إلى أقصاه. فلا رادع للرغبة التسويقية القصوى التي تنطوي عليها الفعلة، ونحن، إذ نتحدث عن رادع، نتحدث عن مقاومة وعن قبول وعن اعتراف اجتماعي بفعلة الطبيب. وأيضاً عن مخاطبة الشريط لما هو عادي في أوساط شريحة قوية في لبنان. وما ردود الفعل المستغربة والمستهولة سوى جزء من آلية استدخال للفعلة إلى منطقة المتوقع ولاحقاً المقبول في الوعي الجماعي.
قيم «الجمال» اللبنانية، هي البرقع الحديث الذي أنتجته الطفرة اللبنانية. هي السجن الذي قرر رجل الطفرة هذه، أن يحيل إليه المرأة، وأن يُبعد عن نفسه مخاطر تحررها على نحو فعلي وحقيقي. لكن مؤشرات أخرى لا تساعده على هذا الصعيد. التعليم والعمل والإنتاج هي مؤشرات تتفوق فيها المرأة اللبنانية على الرجل. والمرحلة الانتقالية لتفعيل هذه المؤشرات ستشهد صدامات سيستعين فيها الطرف الأضعف بأطباء التجميل هؤلاء. فرجال الطفرة أيضاً هم ضحايا ذكوريتهم المُرهِقة. ظاهرة تسليع جسم المرأة مشكلة عالمية، لكن هذه الظاهرة تشتغل في الغرب في موازاة تفعيل القوانين التي تساعد المرأة على أن تصبح شريكاً في كل شيء، وأن تُحاسب المقدمين على ابتذال جسمها. في لبنان، وفي شرقنا عموماً الحداثة هي التسليع.