حازم الامين:
مساءلة خصوم بشار الأسد له عن أسباب عدم رده على الغارات الإسرائيلية المتتالية عليه، تصلح لطرفة لا لسياسة. والقول إن الحروب لا تُخاض بحسابات «الكرامة» والجروح النرجسية، صحيح إلى حد بعيد. ومن موقع خصومة الأسد والذهول بمستوى الجريمة الذي بلغه نظامه، يمكن القول أيضاً إن الرجل والنظام الذي يقف على رأسه، ليسا برداً وسلاماً على إسرائيل، وإلا فكيف نفسر الغارات المتتالية عليه!
والحال أن ثمة خللاً يجب أن يُصحح. خصومة إسرائيل لا تُخفف من قيمة جريمة يرتكبها النظام بحق أهله. الخصومة ليست كذبة، ولا قناعاً. إنها مصلحة، وصاحبها يعرف أنه إذا أدارها جيداً فستؤتي بمزيد من الإمساك برقاب الناس في مجتمع المحكومين. وهنا تبدو مطالبة النظام برد على الغارات صادرة عن وعي ملتبس ومستمر بتقييم شرعية النظام وفق منطق صراع فرضه النظام نفسه، أي العلاقة النزاعية مع إسرائيل. خذ صراعاً مع إسرائيل واعطني رقبتك.
والسنوات العشر الأخيرة كشفت عن أن بشار الأسد أجرى تعديلاً في موقع سورية لجهة إدارة الهدنة المديدة مع إسرائيل، والتعديل هو أنه أتاح لطهران تحويل بلده إلى موقع متقدم لها في طموحاتها التوسعية. ودمشق التي كانت في زمن الأسد الأب متحكمة بوظيفتها في «النزاع البارد»، صارت جزءاً من منظومة لا يملك النظام خيوط التحكم فيها.
هذا يُفسر مثلاً تمسك طهران اليوم برأس النظام في سورية، فهي متمسكة بموقعها الذي أتاحه لها، ويُفسر أيضاً الكثير من الوقائع الملتبسة التي شهدتها دمشق في السنوات العشر الأخيرة. اغتيال عماد مغنية، تم وفق منطق تحول العاصمة السورية إلى ساحة خلفية للصراع، واستضافة «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، واغتيالات ضباط سوريين لا يملك المرء خيوطاً كافية لتفسيرها، إنما يمكن عبرها رصد وجهة هشاشة أملاها الالتحاق الكامل بطهران.
لكن وبالعودة إلى السؤال الأول، وهو: هل يشعر خصوم النظام بأن عدم رد النظام على الغارات الإسرائيلية مؤشر على «عدم شرعيته»؟ يبدو أن ذلك صحيحاً، إذ إن الإلحاح بالسؤال ينطوي على أثر لهذه القناعة! وهنا يسهل القول إن النظام فرض قواعد خطاب معارضيه. «خذ صراعاً واعطني رقبتك»، الوصفة السحرية لأنظمة الاستبداد، وهي الوصفة التي اقترحها حافظ الأسد على مؤسس حزب الكتائب بيار الجميل في شهري العسل بين الرجلين عام 1977، عندما زار الأخير دمشق في ذلك الوقت. قال له «ضع فلسطين في فمك واحكم لبنان».
هذا كله لا ينفي أن تكرار تلقي الضربات من دون ردود أفعال أسّس لنوع من المازوشية السياسية يبدو أنها مولدة لنوع من العنف الموازي. فمع مقدار من الخيال يمكن للمرء أن يتصور النظام في سورية وهو يتلقى صفعات الإسرائيليين، ويخرج العنف الذي تلقاه وشعور الهزيمة الذي دفعه، عبر مزيد من الجريمة في الداخل. وهنا يمكن للمعارضين ممن هالتهم مصادرة النظام موقع الصراع مع اسرائيل، أن يتهموا الأخيرة بالوقوف وراء جريمة النظام، ذاك أنها مؤسسة لمهانة مولدة لرغبة في الانتقام من الأضعف.
بشار الأسد ممانع فعلي، ومن يشعر أن في هذا القول تخفيفاً من مستوى الجريمة التي بلغها نظامه، إنما يستجيب لطبيعة الخطاب الذي أرساه «الرئيس الوالد». الأسد الابن ذاته سبق أن استجاب لهذا الخطاب، وذهب به أبعد مما أراد الأب. أي أنه ومنذ سنوات حكمه الأولى قال لطهران تعالي إلى دمشق وامسكي بناصية النزاع.
ومثلما يتطلب ذلك من السوريين فصلاً بين ظلامتهم وبين العلاقة النزاعية التي تربط النظام بإسرائيل، يتطلب أيضاً من الفلسطينيين خطوة موازية، ذاك أن ربط عدالة قضيتهم بنظام مثل نظام البعث في سورية يُعزز موقع المحتل ويُضاعف سوء التفاهم بين قضيتهم وبين قضية السوريين مع نظامهم. ولهم، أي للفلسطينيين، مثال ساطع على ذلك، هو ما جره عليهم انحياز قيادتهم لصدام حسين في قتله العراقيين، وفي احتلاله الكويت. وفي حينه كان صدام أيضاً ممانعاً فعلياً، وهو قصف بصواريخ سكود حيفا وما بعد حيفا، وما أكثر ما حاز تصفيقاً.