كتب أنطوان فرح في صحيفة “الجمهورية”:
يكاد السؤال الموحّد الذي يطرحه اللبنانيون في هذه الايام مرتبطاً بسعر صرف الدولار. والكل يريد ان يعرف لماذا يرتفع الدولار بعد فترة مراوحة طويلة؟ والى أي سعر يتّجه حالياً قبل ان يستقر نسبياً، كما جرى في الاشهر القليلة الماضية؟ لا يمكن تحديد أسباب انخفاض الليرة في هذه الفترة وفق المفاهيم الاقتصادية العادية المتعارف عليها، لأسباب عدة، ليس أقلها انّ الوضع النقدي والمالي والاقتصادي في الدولة ليس طبيعياً لكي تُستخدم المعايير العلمية «الطبيعية» في التقييم والتقدير. كما أنّ السوق الحرة، لم تعد حرة بالمفهوم المتعارف عليه، منذ أن بدأ مصرف لبنان في التدخّل فيها بقوة منذ كانون الاول 2021.
إنطلاقاً من ذلك، لا يمكن الاستناد الى الغموض الذي يكتنف المشهد السياسي، سواء لجهة الاستحقاق الرئاسي أو ملف تشكيل الحكومة، للقول ان هذا المشهد الشاذ ينعكس على الثقة بالليرة ويدفعها اليوم الى التراجع. وكذلك لا علاقة للنقاشات الدائرة في شأن الدولار الجمركي، بما يجري في سوق الصرف.
ما يحدّد سعر صرف الليرة اليوم هو الكتلة النقدية بالليرة بالتداول، وسياسة مصرف لبنان غير المُعلنة في هذا المجال. اذ ان المركزي، ومن خلال الاتفاق الذي جرى بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والحاكم رياض سلامة، تحول الى لاعب اساسي في السوق.
منذ ذلك الحين، باشَر المركزي ضخ الدولارات في السوق، ونجح في خفض تدريجي لسعر الصرف من 38 الف ليرة الى ما دون الـ30 الفاً. أي ان الدولار تراجع بنسبة لا تقل عن 22 %، وهي نسبة ليست قليلة في ظروف شبيهة بالظروف التي يمر بها الاقتصاد. لكن لم يُعرف الثمن الذي دفعه مصرف لبنان للحصول على هذه النتيجة، ولو ان بعض التقديرات تشير الى مبلغ يتجاوز المليار دولار. وكان المركزي في الحقبة الماضية، لا سيما في الربع الاول من العام 2022، بائعاً للدولار اكثر مما هو شارٍ.
وفي الربع الثاني، خفّف المركزي كمية الضخ، وزاد قليلاً حجم الشراء. اما في الربع الثالث، فإنّ المشهد اختلف. السوق السوداء التي التي كان رياض سلامة لا يعترف بها في التسعير، ويقول لمن يسأله، هذه سوق سوداء لا علاقة لنا بها، تحوّلت الى «دجاجة تبيض ذهباً» ربطاً ببدء موسم الصيف وتدفّق السياح ولبنانيي الخارج الى البلد، وتدفّق الدولارات بسخاء استثنائي. وهناك ملاحظت انينبغي التوقّف عندهما:
الاولى، ان احتياطي مصرف لبنان الذي كان ينخفض بشكل دوري، كما يظهر في البيانات المالية التي يصدرها كل 15 يوما، سجل ارتفاعا في تموز، بما يعني منطقيا ان المصرف اشترى من الدولارات اكثر ممّا باع.
الثانية، ان تسعيرة الصرف في شركات تحويل الاموال، وهي المصدر الاساسي الذي يشتري منه المركزي الدولار، أصبحت أقل من سعر الصرف لدى الصرافين والمتداولين في السوق الحرة. بما يعني ان المركزي الذي يحدّد بنفسه هذه التسعيرة، صار مرتاحاً الى الكميات التي يحصل عليها، الى حد انه سمح بهذا الفارق لكي يفسح في المجال امام حركة تداول ناشطة في السوق لدى الصرافين ايضاً.
ما يجري اليوم، ان تدفّق الدولارات الى السوق تراجع قليلاً، وهو مرشح للتراجع اكثر في الايام المقبلة. وفي المقابل، لم يرفع المركزي من مستوى ضخ الدولارات لسد الثغرة، بل انه باشر في خفض دعمه للبنزين على سعر منصة صيرفة، بما يعني زيادة الضغط على الليرة بسبب ارتفاع الطلب على الدولار من قبل العاملين في قطاع البنزين استيراداً وبيعاً.
الى ذلك، فإنّ الكتلة النقدية بالليرة التي ضخّها المركزي لشراء الدولارات في فترة الذروة، حين كان تدفّق العملة الصعبة غزيرا في السوق، بدأت تظهر مفاعيلها اليوم، اذ تُستعمل لشراء الدولار.
ماذا يعني ذلك، وهل من سقف محدّد قد يصل اليه سعر الدولار في الايام القليلة المقبلة ومن ثم يستقرّ نسبياً، كما كان عليه الوضع قبل الهمروجة الاخيرة؟
الجواب عن هذا السؤال يملكه مصرف لبنان والذي لا احد يعرف ما هي السياسة التي سيتّبعها حيال هذا الوضع. وهو قادر على لجم السعر من خلال زيادة الضخ. فهل لديه النية لذلك، ام انه قرر خفض خسائره، وترك الليرة تأخذ تسعيرتها وفق العرض والطلب مؤقتا على الاقل، خصوصا ان ارتفاع سعر الدولار اليوم قد يكون مناسبا لمواجهة المرحلة المقبلة حيث من المتوقع زيادة الاجور، اي الحاجة الى إنفاق إضافي على مستوى الخزينة. واذا لم تنجح الايرادات في تغطية هذه الزيادة، سيكون على المركزي اما زيادة كمية النقد في التداول عبر الطباعة، واما التضحية بدولارات اضافية يجري تحويلها الى الليرة. وفي الحالتين، المشكلة ليست سهلة.