لا أدري كم كتاباً قرأ هذا الضابط المتقاعد أو ذاك، المتقاعد أيضاً (سواء أكان العميد جورج نادر أو سامر الرماح أو سواهما) عن الثورة والتحرك المطلبي في الشارع.
ولا أدري كذلك ما إذا كان قرأ أي واحد من هؤلاء الضباط، وصولاً إلى العميد المتقاعد، المثقف، وزير الداخلية الأسبق، مروان شربل الذي قدم مطالعة تاريخية، يُمكن وصفها بالجيدة، على إحدى شاشات التلفزة، حول ولادة عيد العمال العالمي في مدينة شيكاغو الأميركية، قبل قرن ونيّف، أي كتاب عن الثورة، سواء أيام الثورة الروسية، أو نهضة الحركة العمالية واليسارية في أوروبا وأميركا الشمالية، أو العالم الصناعي، أو قرأ كتاب لينين «ما العمل» أو كتابه الآخر «خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء»، ليطلق حركة احتجاج واسعة في ما سميّ بتحرك «العسكريين المتقاعدين» من المرفأ إلى مصرف لبنان، مع بقاء الجهوزية قائمة، في ما يشبه تدبير الاستنفار العسكري، رقم 3 أو 4 (لا أدري)، الذي يثير ضجة واسعة لجهة الرواتب، والتقاعد، وخلاف ذلك..
ليست المفاجأة ان يخرج هؤلاء النّاس إلى الشارع، وهم كانوا يطاردون في وقت من الأوقات، أو يمنعون، أو حتى يحمون، جماهير الطلبة، وجماهير العمال والمستخدمين، والمعلمين، وذوي الدخل المحدود، الذين كانوا يملأون الشوارع والساحات، لدى ارتفاع الأسعار، أو احتجاجاً على غبن معيشي أو اجتماعي، بل المفاجأة في أنهم فتحوا الباب أمام موجة تحركات غير مسبوقة، لا في التوقيت، ولا في الشكل، ولا حتى في المطالب.. هكذا بدت الصورة:
– المصرف المركزي، أي مصرف لبنان، وهو السلطة النقدية في الدولة، المعنية بالنقد وبحركة المصارف والتسليف، وبسعر العملات، دخل، عبر جمعية الموظفين، في إضراب، بدأ تحذيرياً، تمّ صار إضراباً مفتوحاً، حتى تتراجع وزارة المال عن تغيير العلاقة مع المصرف، بصفته إدارة مستقلة، من إدارات الدولة، التي لها نظامها الإداري والمالي.
– هيئة أوجيرو، عبر نقابتها، تعلن الإضراب أيضاً، حتى لا تتدخل الدولة في تخفيض رواتب المدراء والأجراء والعاملين والموظفين فيها..
– الضمان الاجتماعي، في حالة إضراب، حتى تتراجع الحكومة عن النية في تخفيض الرواتب والأجور والعطاءات والمنح… الخ.
– مرفأ بيروت امام امتحان صعب اليوم، في ضوء المواجهة بين نقابة مالكي الشاحنات، التي تنقل البضائع إلى التجار والمصانع الواردة من الخارج، ونقابة موظفي المرفأ، الذين يمضون في الإضراب احتجاجاً على محاولات تخفيض رواتبهم وتحميلهم مسؤولية ما يُحكى عن هدر في المرفأ والجمارك، يتجاوز الـمليار دولار؟!
– والمستشفيات الحكومية، تقرر الإضراب أيضاً، إلى جانب العمال والمستخدمين في مصالح المياه والكهرباء وحتى النقل العام وسكك الحديد..
– على ان الأخطر من ذلك، هو اتجاه السلطة القضائية، للتوقف عن العمل، احتجاجاً على النية في تخفيض مساهمة الدولة في صندوق تعاضد القضاة أو دمجه مع المؤسسات الضامنة الأخرى..
– قد لا تكون القطاعات التعليمية، من روابط التعليم الأساسي، وما قبل الجامعي، وصولاً إلى أساتذة الجامعة اللبنانية، ذات تأثير بحجم تأثير القطاعات الأخرى، إلا أن المشهد يأخذ أبعاده، مع هذا الوضع العام المتفاقم..
– حتى ان الوزراء المعنيين بحضور الجلسات لمناقشة الموازنة واقرارها، امعنوا في الغياب، وعدم المشاركة في المناقشات، التي لم تكن اقتصادية، نقدية، تبحث عن حلول لأزمة تكاد تكون مستعصية على الحل، بل غلب عليها، الطابع الكيدي، الاستفزازي، الخطابي، الدعائي، فكانوا إمَّا في حالة «إضراب» أو اعتكاف أو امتناع أو عجز..
فما هو المشهد، المستخلص من وقائع الصورة هذه؟
1 – السلطات ضد السلطات: السلطة الإجرائية أو النقدية (مجلس الوزراء) في مكان، والسلطات النقدية (مصرف لبنان) والقضائية (مجلس القضاء الاعلى)، والأمنية (العسكريون المتقاعدون، والمصالح المستقلة (مياه، وكهرباء) في مكان آخر… فَمَنْ يواجه مَنْ؟
2 – المجتمع ضد المجتمع: هل مجتمع الطبقة السياسية والحاشية والبطانة أصبح في مكان والمجتمع المدني (قوى الإنتاج، أدوات المجتمع، السلطات) في مكان آخر..
3 – العجز الاقتصادي، ليس أمراً غريباً، فالأموال في البلد إلى تناقص، وإجراءات المصارف، في ضوء تعاميم المصرف المركزي، تسمح بسحب مبالغ معينة في اليوم أو حتى الشهر والفصل.. والفوائد تجاوزت العرض والطلب، إلى الدخول في متاهات الأزمة والتدخلات الاقتصادية الدولية..
4 – حدود العجز والمديونية العامة، تعدت ما هو متوقع.. لجهة الأرقام والقدرة على الإحتمال، والتصرف أو المواجهة..
5 – في الخلفية، ما يجري، يخضع لرقابة موظفين ومستشارين من البنك الدولي وصندوق النقد، ومن ورائهما يقف مؤتمر «سيدر» الذي تشرف عليه الدولة الفرنسية، الغارقة في مواجهة إلى الآن مع جماعة (Gilets jaune) أو السترات الصفراء، الذين يحتجون على أنظمة يزمع عمانويل ماكرون (الرئيس الفرنسي) إدخالها على الرواتب، والتوظيف والتقاعد إلخ… وهي حركة اعتراضية، كان لها دورها في اندفاعة الفئات المجتمعية اللبنانية إلى الشارع، تأثراً أو محاكاة لحركة (السترات الصفراء).
6- اذاً، موازنة لبنان، في ظل العهد القوي، وحكومة الوحدة الوطنية، واحياء المؤسسات، ونظام السيادة والاستقلال بين ضغوطات متعددة المساريب والاتجاهات: الضغط المالي، الضغط النقدي، الضغط النقابي، ضغط السلطات على بعضها، إفلاس الطبقة السياسية، ضغط الأرقام، التخفيض الممكن والمطلوب. «سيدر» يطالب بخفض عجز الموازنة بنسبة 5.5٪، الحكومة تتحدث عن تخفيض يصل إلى 8،5٪، ثم تعود إلى الاكتفاء بـ7.5٪ (تصريح رئيس الحكومة الأخير).
وفي الخلفية، ما يجري إلام يهدف؟ هل إلى وضع موازنة تقشفية؟ هل إلى تجاوز أزمة المديوينة؟ أي بمعنى آخر، هل ما يجري هو محاولة للتوفيق ما بين الإمكانيات المتاحة والنفقات المفتوحة على أرقام الخيال، والتبجح، والمباهاة، والفخفخة، والبهورة، والتماهي الاجتماعي، والتسابق إلى الإنفاق والاستهلاك، على طريقة من بعدي الطوفان؟
لدى المطلعين ان ما يجري، هو أبعد من ترتيبات مالية رقمية، عجز، وسدّ العجز، وخلل في الميزان التجاري أو ميزان المدفوعات.. ما يجري، وفقا لهؤلاء ذي صلة مباشرة بترتيبات، تتصل بترتيبات جغرافيا الإقليم، واقتصاده، وأوضاع دوله، ومكوناته البشرية والديمغرافية، فضلاً عن أنظمة الحكم، ووظائف الديمقراطية، أو الأنظمة المتعددة، الطوائف والجنسيات، انسجاماً مع احتياجات اللاعب الدولي الكبير (الولايات المتحدة الأميركية) واللاعب الإقليمي الصغير (إسرائيل الدولة اليهودية على مساحة فلسطين، وربما أبعد من فلسطين؟!).
وفي الخلفية أيضاً، ان ترتيبات لبنان الجديد، ستكون على قياس مسطرة صندوق النقد، كقوة عظمى على الساحة الدولية.. فلبنان ليس بإمكانه تحمل انفجار عسكري وأمني من جديد، إن إعادة ترتيب وقائعه، وإعادة النظر بأدوار طوائفه، يكون من خلال المال والنقد.. والانفجار الاجتماعي..!!
من الثابت، ان زمن الترف اللبناني، قد انتهى إلى غير رجعة، ومن الثابت ان «التذاكي» لدى الطبقة السياسية، اوصلها إلى الحضيض، في نظر حتى اتباعها، فوزراؤها، يتقاتلون، ويتكاذبون ويكذبون، وينافقون، بعدما مارسوا الفجور والفسق (بالمعنى القرآني).
ثمة تحولات آتية إبان رمضان المبارك، أو بعده، لكنها آتية.. فلننتظر لنرى؟!
اللواء