عادل مالك:
… «وطلع الفجر على «الجرود» وهي نظيفة من آثام «داعش»، وبعد اليوم يستطيع الوطن الصغير أن يتباهى بفخر وبلا غرور بأنه حقق الانتصار بسواعد جيشه، والمؤمل عدم إضاعة هذا الانتصار من طريق زجه بزواريب السياسة اللبنانية الضيقة.
ذلك أن الانتصارات في زمن الهزائم وفي خضم مرجل يغلي في المنطقة له طعم خاص وإقرار بواقع قدمه جيش الوطن الصغير في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ لبنان والمنطقة» (الحياة، 20 آب – أغسطس 2017).
لقد انتظر لبنان طويلاً لتحقيق انتصار على أعدائه وضد كل من يضمر له السوء، وحدث هذا الانتصار فعلاً لكن سرعان ما «تبدد» أو هكذا يبدو، من خلال اللفظ الناشب في أنحاء وأجواء مختلفة من الوطن.
يوم أمس الجمعة، سجل الوطن اللبناني موقفاً تضامنياً احتراماً لدماء الشهداء الذكية، والتي روت تراب الجبال والوديان في أعالي منطقة البقاع. وكذلك، تعاطف اللبنانيون مع أهالي الشهداء الذين لم يتعبوا من الانتظار الطويل الذي تواصل على مدى ثلاث سنوات ويزيد، من دون استباق نتائج التحقيق الذي طلب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إجراءه وكشف جميع الملابسات التي رافقت اختطاف ثم اختفاءَ عشرة من جنود الوطن.
إذاً، السؤال المحوري المطروح بإلحاح هو الآتي: هل كانت السلطات اللبنانية المختصة تعلم متى أقدمت زمرة «داعش» على قتل الجنود؟ وإذا كانت هذه السلطات تعلم حقاً، فلماذا لم يبلغ أهالي الجنود بالحقيقة؟
والأمر الآخر الذي أصاب أهالي الشهداء العسكريين، تمثل بترحيل «الداعشيين» في باصات حديثة وجيدة التكييف إلى الجانب السوري من الحدود، بعد وساطة شخصية قام بها الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله لدى زيارته الرئيس بشار الأسد.
هنا، تختلف التقديرات والتفسيرات والاستنتاجات، إذ إن أهالي الشهداء أصيبوا في الصميم عندما شاهدوا من قتل أبناءهم ودفنهم في أعالي الجرود يغادرون من ساحة المعركة بكل مواكب التكريم، ويصرخون عالياً: لماذا لم تجهزوا على من قتل أبناءَنا؟
عند هذه النقطة، يأتي التفسير باسم الجيش اللبناني والقائل: «لقد أمكن قوات الجيش في وقت قياسي السيطرة على مساحة تبلغ مئة متر مكعب ولم يتبق سوى عشرين كيلومتراً».
ويكشف قادة الجيش أن هدف الحملة كان تطهير الجرود من «الدواعش»، ومعرفة مصير العسكريين المختطفين، وقد تم هذا الأمر. ولو قرر الجيش المضي في المعركة لكان دفع الأثمان الغالية من جنوده.
في كل حال، يأمل كثيرون بأن تكشف التحقيقات التي ستجرى ملابسات كثيرة رافقت هذه القضية، مع تعبير البعض عن المخاوف من تمييع التحقيق والغرق في متاهات التسويف والتمويه، بخاصة أن تاريخ لبنان يحفل بهذه التجارب المريرة.
وفي انتظار الآتي من التطورات والمعلومات التي ينتظر أن تكشف الألغاز التي أحاطت بخطف العسكريين وقتلهم، ومن لعب الأدوار القذرة في «تسهيل» عملية اختطافهم، نتابع رحلتنا التحليلية مع «الدواعش» باتجاه سورية والتوقف عند آخر التطورات التي تنطوي على معلومات مهمة هذه المرة.
وبعنوان عريض يمكن القول: «إن الحرب في سورية انتهت أو هي على وشك أن تنتهي». ومن القائل؟ السيد ستيفان دي ميستورا، الوسيط الأممي الذي أدلى بمعلومات هي الأهم والأوضح طوال فترة تمرسه بدور الوساطة الفاشلة. يقول ما حرفيته: «إن الحرب في سورية انتهت تقريباً لأن دولاً عدة شاركت فيها بالأساس لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، ويجب أن يلي هذا فرض هدنة على مستوى البلاد تقريباً».
بل قال أكثر من ذلك: «بالنسبة إلى المعارضة الرسالة واضحة جداً: إذا كنتم تخططون للفوز بالحرب، فإن الحقائق تثبت أن هذا ليس هو الوضع، لذلك آن الأوان الآن للفوز بالسلام».
سؤال: هل يعني ذلك أن الرئيس بشار الأسد انتصر في الحرب؟
جواب: «إن القوات الموالية للحكومة أحرزت تقدماً عسكرياً، لكن لا يمكن أحداً أن يعلن أنه فاز في الحرب، ولا يمكن تحقيق النصر، إلا إذا كان هناك حل سياسي مستدام على المدى الطويل».
وإذا لم يحدث هذا؟ يجيب دي ميستورا: «ربما نرى بدلاً من الحرب – لا سمح الله – كثيراً من الصراعات الأقل شدة وتستمر على مدى السنوات العشر المقبلة ولن تروا إعادة إعمار، وهي نتيجة محزنة جداً للفوز بحرب».
وهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الوسيط دي مستورا بهذا الوضوح، وسيشارك في المحادثات المقبلة التي ستعُقد بعد أيام في آستانة، عاصمة كازاخستان، وسيجرى التركيز على إيجاد حل في إدلب، حيث يتجمع فيها عدد كبير من المعارضين، وفي بعض التقديرات هناك ما يزيد على مليوني شخص متجمعين في إدلب.
إذاً، شعار المرحلة الآتية على سورية هو: خسارة الحرب وربح السلام. على أن النظرة الواقعية للأمور والبعيدة من اللغة الغرائزية والانفعالية تفضي إلى القناعة الآتية: بعد سبع سنوات من الحرب لا يمكن الحديث عن منتصر أو خاسر، بالمعنى التقليدي لمصير الحروب الأهلية. ذلك أن النتيجة الواضحة تكشف وجود خاسر وخاسر أكثر، وعندما تتوقف آلات الحرب العسكرية، والتي تنتمي إلى جنسيات متعددة، سيتضح للجميع أن هذه الحرب ستترك الكثير من الضحايا، ولا مجال لأي نوع من البطولة إطلاقاً.
واستناداً إلى ما تقدم، فمسار الحرب في سورية يجب أن يتجه في مسلك آخر سيعبَّر عنه بـ «حرب»، ولكن من نوع جديد ومختلف. إنه «حرب الإعمار»، وقد بدأ التنافس الفعلي على «خطب ود» دمشق لحفظ موقع لشركات عالمية غربية وشرقية في معركة إعادة إعمار سورية.
«وماذا عن لبنان وأي موقع له في المرحلة الآتية؟». الانقسام يبدو واضحاً بين مختلف الفرقاء: فهناك الفريق الذي يصر على التمسك بشعار «النأي بالنفس»، وهذا يعني عزل لبنان عن أي فرصة للمشاركة في برامج إعمار سورية بعد الحرب الطاحنة التي دمرت الكثير من مدنها وقراها، مقابل فريق آخر يدعو إلى اعتماد الواقعية في التعاطي مع سورية.
وخلال الفترة الماضية، انطلق دعوات كثيرة تطالب الحكومة اللبنانية بإجراء حوار مفتوح مع السلطات السورية، لضمان مكان لبنان واللبنانيين.
ولا تجدي نفعاً سياسة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال، وعلى رغم «الحظر الرسمي» للتعاطي مع النظام السوري، توجه إلى دمشق ثلاثة وزراء من حكومة الرئيس الحريري وسط نفي حكومي أنهم توجهوا كممثلين للحكومة. وتصرف هؤلاء الوزراء مع السلطات السورية بما يمكن أن ينفع لبنان.
الصراحة من دون مواربة تقتضي القول: «إن إقدام لبنان على التعاطي مع دمشق لا يعطي النظام مزيداً من الاعتراف بشرعيته. ذلك أن معظم رؤساء العالم الذين كانوا يطالبون برحيل الرئيس السوري طوال فترة الحرب توقفوا عن هذه المطالبة، وتمت الموافقة على بقاء الأسد كجزء من الحل الآتي على سورية».
وإذا كان بعض لبنان الرسمي المعارض لعقد أي حوار مع النظام لأي اعتبار كان، فإلى الباحثين عن صيغة حل لهذه الأزمة، نقول: هناك صيغة «رأس الناقورة» الممتدة بين لبنان وإسرائيل، حيث يتولى فريق دولي التنقل بين وفدي البلدين ونقل الآراء من دون عقد اتصالات مباشرة، فهل هذه الصيغة ملائمة لاعتمادها مع سورية؟!
على أن هناك ما هو أخطر، وننقله بتحفظ تمليه الموضوعية في المعلومات والمسؤولية الوطنية في نشرها. وهذه المعلومات مفادها أن على لبنان أن يعد نفسه جيداً لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب في سورية! وبتعبير أكثر مباشرة وصراحة: انتهت الحرب وعلى لبنان «الحذر من ارتدادات البركان السوري»، كما ورد في نصيحة قدمت من جانب طرف رفيع المستوى يتابع من قرب ما آلت وستؤول إليه الأوضاع السورية.
مثل هذه النصيحة يجب أن تؤخذ على مجمل الجد واعتماد سياسة ترصد الحوادث وتسعى إلى استباق نتائجها. وتتضمن النصيحة الإشارة إلى مراقبة التحركات التي يمكن أن تشهدها مخيمات نازحين سوريين أصبحوا ينتشرون في مختلف الأراضي اللبنانية.
وتشير هذه المصادر إلى احتمال وجود بعض «أصحاب الخبرات القتالية» داخل المخيمات، كما تلمح إلى قيام عدد غير قليل من النازحين بزيارة سورية والعودة ثانية إلى لبنان.
وبعد…
• على رغم الجانب المأسوي من محنة الشهداء العسكريين، لا يجب إغفال الجوانب الأخرى الأكثر إيجابية.
• لقد حقق الجيش اللبناني انتصاراً نوعياً على مقاتلي «داعش» وهذا ما يؤكد بعض الوقائع والحقائق، ومنها أن الجيش عندما يعمل المسؤولون على تأمين التغطية السياسية له، يثبت أنه جيش يتمتع بمهنية وقدرات قتالية جيدة. وقد لوحظ أن قائد المنطقة الوسطى الأميركية بعث بتهنئة إلى قائد الجيش العماد جوزف عون، على البلاء الحسن ضد الإرهاب، وهذا ما يجب أن يشجع الإدارة الأميركية في عهد دونالد ترامب أو غيره على الاستمرار في دعم الجيش اللبناني وتزويده بما يحتاج إليه من عتاد.
• بعد معركة «فجر الجرود»، يتوجب على السلطة اللبنانية إيلاء المناطق البقاعية في كل اتجاهاتها الاهتمام الإغاثي لأن هذه المناطق تعاني من حرمان مزمن ومن تخلف في غير مجال، وحان الوقت لإنصاف أهالي هذه المناطق لتشجيعهم على البقاء في مدنهم وقراهم.
أما الصعيد الداخلي اللبناني، فيحفل بكثير من السجالات الساخنة التي تتحول في الأفق إلى سحب قاتمة تعكر الهدوء النسبي الذي كان سائداً في الآونة الأخيرة. وفي المقابل، يترتب على «حزب الله» الكثير من المسؤوليات في هذه الفترة بالذات وهو ليس بغافل عنها.
وهناك سؤال من أسئلة المرحلة المزدحمة بالتساؤلات: لقد انتهى «داعش» أو يكاد، على رغم نشاطه العابر للقارات ودول العالم، ولكن هل انتهت «الداعشية»؟ فليس بالقمع الأمني وحده يتم القضاء على الإرهاب التكفيري.
* إعلامي لبناني