“لست مسؤولاً، لم تكن غلطتي” كانت تلك آخر ما سمعه الموظفون في برج مراقبة مطار بيروت الدولي من الربان قبل أن تختفي الطائرة “كورتيس سي 46” التابعة للخطوط الجوية اللبنانية عن شاشات الرادار أمامهم، ويسود السكوت التام في البرج، وتقرأ الحيرة في العيون، بينما تغوص الطائرة في البحر لتدفن معها شحنتها الكبرى من الذهب، وتسجل أول حادثة للطيران المدني في لبنان، وتتحول الى أعقد الألغاز الوطنية حتى اليوم.
بعد ظهر نهار خميس مشمس من تشرين الاول العام 1957، أكمل الطاقم الاستعدادات الروتينية على متن الطائرة، واستوى ركابها الثلاثة والعشرون على مقاعدهم، وأقفلت كوة الحمولة في باطنها على خمسة عشر صندوقاً محكمة الإغلاق تحتوي 400 كيلوغرام من سبائك الذهب الخالص، كانت في طريقها من بيروت الى الكويت، فالبحرين.
بعد 17 دقيقة من إقلاع الطائرة، ولدى وصولها الى أجواء مدينة صيدا الجنوبية، ورد إتصال من طيارها شكرالله أبي سمرا يفيد بصوت مضطرب أنه على ارتقاع 10500 قدم وأن حريقاً شب في محركات الطائرة، وطلب العودة إلى المطار للقيام بهبوط اضطراري.
رد برج المراقبة في بيروت بالموافقة، وبدأت فوراً عملية إخلاء المدارج وأعطي الأمر لسيارات الإسعاف لتبقى على أهبة الاستعداد.
بعدها بدقيقتين اتصل أبي سمرا مجدداً بصوت مرتعد يقول “لن أنجح في الوصول إلى المطار، أنا على ارتفاع 6000 قدم والطائرة تسقط”. تضاعفت الإجراءات الوقائية في المطار، ثم أتت كلمات شكر الله الأخيرة “بت على ارتفاع 1500 قدم، فقدت السيطرة على كل شيء، لست مسؤولاً”، ثم صرخ “لم تكن غلطتي، ليست غلطتي” وانقطع الإرسال نهائياً.
سقطت الكورتيس سي 46 على بعد 18 كيلومتراً من مطار بيروت، وعلى مسافة لا تزيد عن 13 كيلومتراً من البر، ومع أن سقوطها جاء في بحر هادىء وضحل نسبياً، اختفى كل أثر للطائرة، ولم يعثر على حطامها إلى اليوم، بعد مضي 60 عاماً على الحادثة.
لم يعثروا على الجثث
بالرغم من قرب مكان سقوط الطائرة من البر، لم يتم العثور على حطام الطائرة ولا على جثث ضحاياها السبع والعشرين، الطيار شكرالله أبي سمرا، ومساعده، وإثنين من الطاقم، و13 لبنانياً، و4 بحرينيين، و4 بريطانيين، وكويتي وأمريكي، ما شكل لغزاً محيراً، لأن العمق الأقصى المحيط بالمياه الإقليمية اللبنانية يسجل 1400 متر فقط، فأين اختفى الحطام والجثث؟
بعد أشهر من الرصد البحري والبري والجوي، جاء في التقرير الاستنتاجي للتحقيقات يومها أن الجثث بقيت معلقة في هيكل الطائرة، لذا لم تطفو الى السطح، وما سيطفو منها بعد مدة سيسحبه التيار البحري إلى أعماق البحر المتوسط ليتحلل.
وتعيّن على العائلات المفجوعة دفن جثث في توابيت رمزية فارغة.
أين اختفى الذهب؟
400 كيلوغرام من الذهب الخالص، تبلغ قيمتها التقديرية حينها أكثر من مليار و650 مليون دولار اختفت في تلك الحادثة، الأمر الذي دفع السلطات اللبنانية تحت ضغط شركة التأمين إلى التحقيق حول إمكانية عدم صعود الذهب الى الطائرة أصلاً، أو إن كان في الأمر شبهة جنائية.
غير أن التحقيق لم يصل إلى نتيجة، لا بل ضاعف الأسئلة حول حقيقة ما حدث، والسبب الحقيقي وراء تحطم الطائرة واختفاء حمولتها النفيسة من دون أي دليل أو قطعة تساعد في حل الأحجية، فهل تختفي طائرة بهذا الحجم في بحر ضحل دون أي أثر؟
تطلب الأمر 35 سنة من المماطلة والدعاوى القضائية حتى قامت شركة التأمين البريطانية “لويدز إنشورانس” بدفع قيمة التأمين على الطائرة والذهب، فقد كانت تأمل الوصول إلى صناديق السبائك لتعوض جزءاً من خسارتها الفادحة، الأمر الذي لم يحصل.
سرت شائعات كثيرة حول اختفاء الطائرة، فقيل إن هناك من منع الوصول إليها، أو إن الذهب قد أخذ من الطائرة، أو إنه لم يصعد إلى متنها قط، وإن تلاعباً ما تم في السجلات، وإن هناك من يتمتع بنفوذ خارق، تمكن من تدبر أمر تعطيل الطائرة لتسقط، ثم أخفى الطائرة بطريقة ما.
ذهب يسيل له اللعاب
قامت البحرية اللبنانية في بادىء الأمر بمنع الاقتراب من المنطقة التي يشتبه أن الطائرة قد سقطت فيها، وما أن انتهت التحقيقات حتى بدأ الناس يرون قوارب الصيادين والفضوليين تجول المنطقة، كل يمني النفس بالحصول على الذهب، دون جدوى.
حتى أن هناك غطاسين محترفين حاولوا النزول الى الأعماق ولم يفلحوا، وبقيت هذه المحاولات غير مسجلة لأنها كانت تدور سراً، إلى أن حضر إلى بيروت العام 2000 صائد الكنوز السويدي الشهير سفيركر هالستروم، طامعاً بأول محاولة جدية للبحث عن الطائرة بعد كل هذه السنوات.
بعد عام واحد، حضر هلستروم ومعه فريقه وسفينته الشهيرة “لو سكوبيو”، وغطاس آلي قادر على الغوص إلى 2500 متر وإرسال الصور بدقة، وعقد مع الدولة اللبنانية اتفاقية تسمح له بالبحث عن الطائرة والذهب، مقابل أن يحصل هو على 75% منه في حال وجده.
بدأ هلستروم وفريقه العمل فوراً، غير أن ثمة ما أثار إحباطهم، فغادروا فجأة إلى غير رجعة، ليزيد من الأسئلة والشكوك حول ماهية ما اكتشفه الرجل وفريقه حول حقيقة الطائرة، فهل وجدوها خالية؟ أو لم يجدوا أثراً لها على الإطلاق؟ أو أن ثمة من أسر له بالحقيقة فقرر المغادرة؟
مع العلم أن هولستروم في طلبه إلى وزارة النقل أكد أنه وجد الحطام على عمق 1400 متر، وأرفق في تقريره صوراً له، فما الذي حصل حتى يتراجع بعدما وجد الطائرة، وما كان عليه سوى النزول لإحضاره؟
قبل هولستروم، كانت هناك محاولات وطلبات تقدمت بها شركات عديدة للبحث عن الكنز، عامي 1998 و1999 مقدمةً من “أوديسي إكسبلورر” وهي سفينة متخصصة في انتشال الكنوز مقابل اقتسام الكنز مناصفة مع الدولة اللبنانية، ووقعت الاتفاقية في وزارة النقل ولم تبدأ عمليات البحث بحجة أن الشركة لم تتمكن من توفير المعدات اللازمة.
وفي عام 2006 قبيل حرب تموز، أوقف الجيش اللبناني سفينة “أوديسي إكسبلورر” واتهمت بقيامها بأعمال قرصنة في المياة الإقليمية اللبنانية، بعدما ضبطتها القوات البحرية في الجيش اللبناني أثناء رميها لأجهزة استشعار في مناطق يشتبه أنها مكان سقوط الكورتيس.
لاحقاً فسرت الشركة الأمر بأنها وجدت بالصدفة حطاماً لسفينة فينيقية غارقة، وطوي الملف بفعل الحرب، والحصار الذي فرضته القوات الإسرائيلية على الشاطىء اللبناني، ومن ثم تسيير سفن دوريات اليونيفيل التي كانت تراقب الحدود البحرية.
اللغز مجدداً عام 2010
في العام 2010 شهد لبنان مأساة أخرى مع سقوط رحلة الخطوط الجوية الأثيوبية رقم 409 في البحر، بعد دقائق من مغادرتها مطار بيروت باتجاه أديس أبابا، ما أعاد طرح تاريخ الكوارث الجوية، ومنها قصة الكورتيس الشهيرة.
الطائرة الأثيوبية التي كان من المعلوم تماماً مكان سقوطها أيضاً لم يتم العثور عليها في الحال، وجرى استقطاب سفن البحث من حول العالم، ومنها المزودة برادارات فائقة القوة للبحث تحت الماء.
إحدى هذه السفن كانت “أوشن أليرت”، التي سبق أن تقدمت بطلب من وزارة الأشغال العامة للبحث عن الكورتيس الغارقة منذ الخمسينيات، وتم إشراكها في عمليات البحث عن الطائرة الأثيوبية.
غير أن خط سير السفينة اليومي طرح الأسئلة حول حقيقة ما كانت تقوم به، خاصة أنها وغيرها من سفن الرصد بحثت في أماكن بعيدة عن المكان الذي سقطت به الطائرة الأثيوبية، وفي أمكنة أقرب إلى المكان المرجح لسقوط الكورتيس في الخمسينيات.
قامت هذه السفن على مدى أسابيع بمسح الساحل اللبناني من الجنوب حتى بيروت، إلى أن عثر على حطام الطائرة الأثيوبية في المكان التي طفت فيه بقع الزيت منها، بعيداً عن الأمكنة التي بحثت فيها السفن طوال هذه المدة.
ما عزز الأسئلة حول اللغز أيضاً، العودة المفاجئة لسفينة “أوديسي إكسبلورر” ذاتها التي بحثت عن كنز الذهب في نهاية التسعينيات، وأوقفت عام 2006 لتساهم في البحث المزعوم عن الطائرة الأثيوبية، وتبين لاحقاً أن “أوشن أليرت” و”أوديسي إكسبلورر” تعود ملكيتهما للشركة المشغلة ذاتها.
تردد في بيروت صدى الأسئلة عن السبب الحقيقي لوجود كل هذه السفن، هل هو البحث عن الطائرة الأثيوبية أو عن الكورتيس الغارقة من الخمسينات وكنزها الذهبي؟ وكثرت الأسئلة حول الأمر، ما أجبر الحكومة اللبنانية تحت الضغط الإعلامي على نشر خط سير السفن يومياً في النشرات الإعلامية.
الضحايا أم الذهب؟
لم يعرف حتى اليوم ما إذا كانت إحدى الجهات التي بحثت عن الذهب قد انتشلته فعلاً وتقاسمته مع جهات لبنانية نافذة، أو أنه لا يزال غارقاً تحت بحر لبنان.
الثابت فقط أنه بعد أكثر من ستين عاماً على اللغز، خفتت الأصوات المطالبة باستذكار الضحايا مع تقبل الأهالي لخسارتهم، وطويت ذكرى هؤلاء إلى الأبد، لكن الشهية المفتوحة لكنز الذهب لم تسكت، والأسئلة المطروحة حول الحادثة تكبر وتزداد كلما نزع عنها الغبار، لتحصل حكاية طائرة الذهب على السيرة المعادة لكل الألغاز اللبنانية، نهاية مؤجلة… إلى حين.
(عماد بزي – رصيف 22)