إنها المرحلة الأخطر على البلد منذ العام 2005. فلم يسبق أن كان جِدّياً الحديث عن انهيار متكامل داهم، سياسياً واقتصادياً ومالياً ونقدياً. وغالباً ما يفضّل الرئيس سعد الحريري أن “يقَطِّع” المرحلة بتناقضاتها وغموضها واضطرابها، وفق قاعدة “في فمي ماء”. فهو حتى لا يردّ على كلامٍ جارح أو ظالمٍ أو مغلوط يتناوله بالسياسي أو بالشخصي. ولكن هذا لا يمنع “الكلام الكبير” الذي يقال في البيئة المحسوبة على الحريري، وقد يأتي يومٌ ويقوله الرجل من تلقاء نفسه… إذا سمحت ظروف البلد والمصلحة السياسية.
لا يعتكف الحريري في باريس الآن، كما يقول البعض، بل هو “يعتصم بالصبر”. فقد “أدّى قسطه للعلى” في عملية التأليف، بعد 5 أشهر من المفاوضات. “قال كلمته ومشى” ولا يريد أن يضيف إليها شيئاً. وليتدبَّر الآخرون أمورهم.
أكثر من ذلك، هو قال في وضوح: “إذا أردتم تمثيل سنّة 8 آذار، فتِّشوا عن غيري”. والرجل لا يناور. لكنه ضمناً مطمئن إلى أنّ أحداً لا يريد التفتيش عن سواه. إنه السُنّي المطلوب في هذه المرحلة. لقد “عرَف الحريري مكانَه فتدلَّل”. لكنّ هذا الدلال يبقى “نسبياً” وتحت السقف!
يقول القريبون من الحريري: “هو لن يُستَدرَج إلى هدر الوقت والجهد في مساومات عقيمة حول عقدة مصطنعة لم تكن مطروحة أساساً. ليس فقط لأنه يرى فيها استدراجاً إلى الفخّ، ورغبةً من “حزب الله” في السيطرة على قرار الحكومة والبلد، بل لأنه يعتبر اختلاق هذه العقدة ذريعة لمنع ولادة الحكومة في هذه المرحلة، بعدما كانت العُقَد الأخرى قد حُلَّت ونضجت لحظة التأليف. والدليل هو أنّ التجاذب قائم اليوم داخل فريق 8 آذار، بين رئيس الجمهورية و”حزب الله”.
وتروي الأوساط المحسوبة على الحريري ما يتجنّب قول بعضه علانية. فالرجل، الذي يمضي أياماً عدّة في الحضن الفرنسي الدافئ، يشعر بالملل من مسار التأزّم السياسي الدائم في بيروت. وقد خاب ظنّه في كثير من الأمور التي كان يراهن عليها:
هو جاء إلى الحياة السياسية والحكومة، بعد اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، متعهّداً أن يستكمل مشروعه للإعمار. لكنه وجد نفسه محاصَراً ولا يستطيع العمل. وتمّ إسقاط حكومته عام 2011، فأمضى أعواماً خارج السلطة والحياة السياسية.
وعندما قرَّر العودة، لم يكن هاجسه الزعامة، بل ملء الفراغ الذي أدّى إلى اختلال التوازن السياسي، ووقوع السلطة في يد فريق واحد. وإذ يعمل اليوم لإرساء هذا التوازن، في عهد الرئيس ميشال عون، يبدو الفريق الآخر مصمِّماً على السيطرة واستخدام فائض القوة.
يقولون أيضاً: “اتّهموا فريق 14 آذار بأنه يعطّل البلد بسبب تركيزه على ملفات لا جدوى من طرحها، كسلاح “حزب الله” ومشاركته في القتال في سوريا والمحكمة الدولية. وها نحن اليوم نطوي صفحة السلاح ولا نتحدث عن التورّط في الحروب الإقليمية ونترك للمحكمة الدولية أن “تشتغل شغلها” ونرفض الإدانة المسبقة والانتقام ونمدّ يدنا، ولكنّ الفريق الآخر يزداد تعنُّتاً.
وأكثر من ذلك، نحن تجاوزنا الآلام التي تسبّبت بها الاغتيالات المتلاحقة لأركان فريقنا السياسي، وعملنا مرّة أخرى، كما في 2005، على إنقاذ التسوية الداخلية، وساهمنا في إمرار كل العقوبات الدولية ضد “حزب الله” بأقل الأضرار، ووفّرنا له غطاءً دولياً تحت مظلّة الدولة، وما زلنا. لكنهم كانوا يصوغون قانون انتخاب يوفّر لهم الغالبية النيابية. وهم يريدون اليوم حكومة تشكّل انعكاساً للمجلس. ومع أنّ كل الصيَغ التي وافقنا عليها توفِّر لهم الغالبية، فإنهم يعرقلون التأليف بسبب الطمع الزائد، أو رغبة في المناورة والتعطيل، أو لتصفية حسابات النفوذ، حتى داخل الفريق الواحد بينهم وبين حليفهم رئيس الجمهورية وفريقه السياسي”.
ويضيف هؤلاء: “إنهم يتحكّمون حصرياً بالتمثيل الشيعي، ويريدون أيضاً “مصادرة” جزء من التمثيل السنّي. ونحن نطالبهم بتقديم مبرّر منطقي لتمثيل السُنَّة المنضوين أساساً في كتل أخرى، تمّ تمثيلُها، ولكن لم نحصل على أيِّ تبرير. فهل يريدون استخدام فائض القوة لفرض وزير سنّي يتلقى التعليمات منهم مباشرة؟ وإذ ينسِّقون حراكهم السياسي والعسكري مع إيران بالكامل، ويخوضون معاركها ميدانياً في كل دول الشرق الأوسط، يطلبون منّا توفير الحماية لهم في الداخل اللبناني. ونحن نقوم بذلك بطيب خاطر، لأنّ مِن واجبنا الوطني أن نحمي أهلنا من أيّ خطر خارجي. ولكن، في المقابل، هم يستغلّون غطاءَنا ليثيروا الأزمات وينبشوا القبور لتوتير العلاقات مع المملكة العربية السعودية التي ترعى الجميع، بلا استثناء، وتساعد اللبنانين جميعاً على الخروج من مآزقهم السياسية والاقتصادية.
وعلى رغم مناشدتنا لهذا الفريق أن يراعي مصلحة مئات الآلاف من اللبنانيين العاملين في المملكة والخليج العربي، والذين لهم مصالح حسّاسة ويشكلون رافداً حيوياً للاقتصاد اللبناني المتعثّر، فإننا لا نلقى تجاوباً، وكأنّ المطلوب أن نكون نحن وحدنا “أم الصبي” في اللحظة الحرجة!
فهل يستحقّ الخلاف على تسمية وزير واحدٍ من أصل 30، أن يشنّ فريق 8 أذار كل هذه الحملات الساخنة بنحو غير مسبوق، والتي تبدأ في بيروت ولا تنتهي في الرياض أو واشنطن أو باريس؟ وهل يريدون التفاهم والتسوية السياسية،أم يريدون تفجير كل شيء خدمةً للمحور الخارجي؟
وماذا سيفعل هؤلاء لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تهدّد بانهيار حقيقي؟ وفيما نعمل مع الأصدقاء الدوليين والعرب لعقد مؤتمرات الدعم، هم يفرِّطون بكل شيء ويتصرفون وكأن الأمر لا يعنيهم، علماً أنهم كانوا الأشد حماساً لإقرار سلسلة الرتب والرواتب بلا ضوابط ومن دون إقرار الإصلاحات في الإدارة. وأما أزمة الكهرباء فهي السبب الأكبر في تنامي العجز”.
هذا الكلام هو بعضٌ ممّا يُسمَع في البيئة المحسوبة على الحريري. وربما يقول الرئيس المكلّف كثيراً منه. لكنه لا “يبقّ البحصة” علناً، لئلّا يزيد في تفاقم الأزمات.
وفي أيّ حال، الحريري راجع. والأرجح، بعد حضوره الأحد مئوية انتهاء الحرب العالمية الأولى، إذ سيشارك في جلسات التشريع التي حدَّدها الرئيس نبيه بري الإثنين والثلثاء المقبلين. وقبل ذلك، سيكون خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، غداً السبت، قد صوَّب البوصلة: هل في الأفق القريب حكومة أو لا حكومة؟ وبعد ذلك، لكل حادث حديث!
(الجمهورية)