هل هناك فعلاً مجال للتفاؤل، وسط كل هذا الخراب والانهيار المالي والاقتصادي والاختناق السياسي وملامح التفجُّر الأمني القريب والبعيد؟ كثيرون يقولون إنّ هذا سرابٌ، من نوع الحالات النفسية التي تصيب الشعوب في النكبات الكبرى، حيث يتمسَّك الغريق بِقَشَّة أو بحبال الهواء. لكن الذين يتواصلون مع بعض الأوساط الديبلوماسية في بيروت، يسمعون معلومات عن انفراج محتمل، مفاجئ وشامل، ومنهم من يقول إنّه مؤكّد، وإن موعده بات قريباً. فأين تبدأ الحقيقة وأين ينتهي الوَهْم؟
توحي هذه الأوساط الديبلوماسية، بأنّ انفجار المرفأ وضع لبنان على سكّة الحلول. وفي العبارة المجازية، لقد فجَّر النفق المقفل، وبه انفتحت كُوَّةٌ، ربما تسمح للبنان بالخروج مجدداً إلى الضوء.
المعلومات التي تتقاطع، من هذه الأوساط، تشير إلى قرار دولي بالدخول على الملف اللبناني بقوة وسرعة. وقد أكّد ذلك وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد هيل، أمس، إذ قال إنّ الـFBI تشارك في التحقيق بدعوة من الحكومة اللبنانية. وهذا يعني أنّ التحقيق سيكون مدوَّلاً بنسبة كبيرة.
لكن هدف المساعي الدولية الجارية اليوم لن يكون فقط معالجة تداعيات الانفجار الأخير، بل إنتاج سلّة حلول وتسويات في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية والأمن والمال والاقتصاد. وجاءت لحظة الانفجار لتُحرِّك المياه الراكدة في المستنقع منذ أشهر، بل سنوات.
وتشير الأوساط، إلى سلسلة مؤشرات أميركية- فرنسية متسارعة ترجّح فرضية التسوية الطارئة، وأبرزها: نزول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بثقله إلى الأرض، بعد الانفجار، علماً أنّ وزير خارجيته كان قد غادر بيروت قبل أيام قليلة، وعلى رغم الموعد المقرَّر لزيارة ماكرون في ذكرى ولادة لبنان الكبير، أول أيلول.
هذا الاستنفار الفرنسي يتزامن مع إعلان باريس تدعيم حضورها العسكري في شرق المتوسط. وصحيح أنّ الأمر يتعلق خصوصاً بدعم اليونان في مواجهة التمدّد التركي، إلّا أنّ مجرد ترسيخ الفرنسيين مواقعهم في مقابل الشواطئ اللبنانية سيبعث برسالة إلى الذين يعنيهم الأمر، مفادها أنّ لبنان أيضاً بات تحت الرعاية المباشرة.
والدليل هو مجيء وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي إلى بيروت، حيث تستقبل حاملة الطائرات المروحية الفرنسية «تونير» التي كانت انطلقت من مرفأ تولون، الأحد الفائت، وعلى متنها 700 جندي. وهي تمتلك القدرات لاستطلاع المنافذ البحرية والدعم في مجال المسح البحري.
يلاقي الحراك الفرنسي استنفارٌ أميركي موازٍ. ففيما ينشط هيل في بيروت، لثلاثة أيام، يستعد ديفيد شينكر لزيارة بيروت بعد ذلك ببضعة أيام. واللافت هو تزامن وجود هيل في بيروت مع زيارةٍ يقوم بها وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف.
ومعلوم أنّ الرئيس ماكرون كان اتصل قبل أيام بنظيره الإيراني حسن روحاني، ودعاه إلى وقف التدخّلات الخارجية في الشؤون اللبنانية. ويأتي هذا الاتصال في ذروة التحدّي بين طهران وواشطن، التي ترغب في طرح مشروع قرار في مجلس الأمن، يقضي بتمديد حظر حصول إيران على السلاح. ولكن، من الواضح، أنّ ذلك سيصطدم بـ»فيتو» من روسيا والصين.
هذا في المناخات السياسية المعلنة. وأما في المعلومات، فثمة كلامٌ على وساطة يقوم بها الفرنسيون، وتقضي بأن يتجاوب الإيرانيون مع مساعي التهدئة في لبنان، بحيث يعطون الضوء الأخضر لانخراط «حزب الله» في التسوية السياسية، في الأسابيع القليلة المقبلة، مقابل تخفيف الحصار الأميركي على إيران، خصوصاً أنّ ذلك حاجة أساسية لـ»الحزب» عند صدور الحكم في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في 18 الجاري، وما يمكن أن يخلِّفه من تداعيات.
ويقول بعض المطلعين، إنّ «الحزب» كان موضوعاً في أجواء اضطرار إيران إلى القبول بتسوية بين واشنطن وطهران منذ الخريف الفائت، وتحديداً منذ زيارة الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله لطهران ولقائه مرشد الثورة علي خامنئي، في أيلول، بحضور قائد «فيلق القدس» اللواء قاسم سليماني.
ولذلك، عندما سقطت حكومة الرئيس سعد الحريري، بعد أيام من انتفاضة 17 تشرين الأول، أخذ «الحزب» على عاتقه رعاية حكومة الرئيس حسان دياب لتشكّل حماية له. كما أنّه زاد من الاعتماد على مصادر التمويل المحلية، على رغم العقوبات الأميركية والحصار على القطاع المصرفي.
ومع سقوط هذه الحكومة، يتوقع المطلعون أن يجد «الحزب» نفسه مضطراً إلى الدخول في التسويات المطروحة لحماية وجوده… إلّا إذا قرّر اللعب «صولد» ومحاولة الخربطة للدفاع عن بعض المكتسبات. ويمتلك «الحزب» أوراقاً سياسية وأمنية ومالية، فإذا استخدمها يمكن تَوقُّع مرحلة ساخنة في لبنان.
ولكن، يقول المطلعون، سيكون أي رفض من «حزب الله» للتسوية السياسية غير ذي جدوى. ولذلك، هو سيفكّر كثيراً ويدرس الأرباح والخسائر بدقة قبل ذلك. وسيكون المقياس هو مدى تجاوبه مع المساعي الفرنسية- الأميركية لتشكيل حكومة جديدة.
وخلافاً لما أوحى به ماكرون خلال زيارته بيروت، لا يتمسك الفرنسيون بحكومة وحدة وطنية وفق النمط التقليدي، أي على شاكلة حكومة الرئيس سعد الحريري الأخيرة. واستخدامُه تعبير «الوحدة الوطنية» يُراد منه أن تحظى الحكومة بتوافق شامل ولا يكون هناك انقسام حولها. وهذا المعنى ينطبق خصوصاً على حكومة المستقلين المتحرِّرة من الارتهانات السياسية.
ووفق المعلومات، هناك توافق تام بين الفرنسيين والأميركيين، بحيث تتكامل جولات الطرفين في هذه المرحلة، ولا تتناقض. وبناء على هذا التوافق، ليس وارداً إطلاقاً تشكيل حكومة قوامها الطاقم السياسي التقليدي الذي أثبت فشله، لأنّ ذلك سيعني تكريس الأزمة لفترات إضافية، وغرق البلد في انهيارات إضافية سيصبح الخروج منها شبه مستحيل.
ففي المراحل الأولى من الأزمة، بعد 17 تشرين، كان الأميركيون متشدّدين في تعاطيهم مع قوى السلطة، وكان الفرنسيون يفضلون تدوير الزوايا. وهذا الخلاف ظهر في اللجنة الثلاثية التي جمعت الطرفين وبريطانيا، على مستوى مدراء الخارجية. وأما اليوم، فقد تطوّر موقف الفرنسيين، والأوروبيين عموماً، ليقترب من الموقف الأميركي.
إذا صحّت هذه المعلومات، ما هو المنتظر في لبنان خلال الأسابيع القليلة المقبلة؟
المصادر نفسها تبدي تفاؤلاً غير مسبوق، وتقول: «لم يعد هناك مجال للتمييع أو هدر الوقت. وسيقتنع «حزب الله» بأنّ المناخ الدولي يفرض عليه القبول بمنطق الحياد اللبناني وتشكيل حكومة مستقلين. وعلى الأرجح، سيجد أنّ حلفاءه الأساسيين في الداخل قد بدأوا يتمايزون عنه تدريجاً، خصوصاً عندما يتبلّغون أنّهم على وشك أن يُدرَجوا على لائحة العقوبات الأميركية».
وتضيف: «هذه المرة، سينفرز لبنان واقعياً عن النفوذ الإيراني إلى حدّ ملموس. وفي هذه الحال، سينفكّ الحصار الدولي عنه، مالياً واقتصادياً وسياسياً. وهذا ما يقود إلى جلاء الأزمة المستمرة منذ أشهر بشكل سريع ومفاجئ، بحيث يسلك لبنان طريق الحلّ الفعلي».
هل تصحّ هذه الفرضية؟ يقول الفرنسيون: «c›est trop beau pour être vrai»، أي «هذا جميل بحيث لا يُصدَّق أنّه صحيح».
(الجمهورية)