مصطفى الفقي :
قام التكوين الإرهابي لتنظيم «داعش» في السنوات الأخيرة على أسلوب يعتمد على إمكان تحول مفهوم الدولة في مكوناتها التقليدية من أرض وشعب وسلطة إلى مفهوم آخر يدور حول معنى (الدولة المتحركة)، أي تلك التي تسمح بوجود انتقالي يتحرك من منطقة إلى أخرى في محاولة لإحكام السيطرة على بعض المناطق التي ينطلق منها إلى غيرها، فإذا تم دحره في موقعه الأساس فإنه يتسرب إلى مناطق أخرى في إطار شبكة عنكبوتية تسعى دائماً إلى توفير بيئة حاضنة لأفكاره ومناخ من الرعب يسمح له بممارسة ذلك العنف غير المسبوق لترويع سكان تلك المناطق وتخويف غيرها والبعث برسالة لكل الأطراف الدولية والإقليمية بأن هناك من يرفع شعارات زائفة تتمسح بالإسلام الحنيف وهو أبعد ما يكون عن تلك الأفكار المغلوطة والفتاوى المضللة والأحاديث المدسوسة، وتكون النتيجة هي مثل ما شهدناه في شمال العراق عندما اتخذ تنظيم «داعش» موقعه المتحرك الأول في مدينة الموصل إلى جانب مواقع أخرى أقل منعة وقوة في سورية ولكنها في النهاية، هي وغيرها، تمثل كيانات إرهابية تنتقل من مكان إلى مكان وتنتقي نقاطاً معينة بهدف السيطرة وتغيير مسار الحياة البشرية بالكامل، وهو يرفع رايات الإرهاب الأسود الذي يدفع كل طرف إلى أن يعمل حساباً له، ولعلنا نبسط ما أجملناه من خلال الطروحات التالية:
أولاً: لقد ظلم المسلمون دينهم كما لم يفعل أتباع دين آخر فركزت فئة منهم على المهجور من آراء الفقهاء الذين خلطوا بين مفهوم الجهاد وبين النضال وبين الكفاح الوطني خلطاً متعمداً انطلقوا به إلى توظيف ما يسمى بالإسلام السياسي لخدمة مصالح وأهداف تبدو بعيدة من صحيح الدين الحنيف وشريعته الغراء، ولقد كان ظهور جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر هو التوقيت الحقيقي لميلاد الإسلام السياسي حيث انتشرت أفكارها في مصر كالنار في الهشيم، وعبرت منها إلى الأقطار العربية والإسلامية في وقت كانت فيه تلك الأقطار متعطشة إلى بديل للخلافة الإسلامية التي هوت قبل ذلك بسنوات قليلة، ثم اعتمدت حركات الإسلام السياسي على تنظيمات شبه عسكرية هي ذراع العنف الذي يبيد كل من يعترض طريقهم أو يرون في إزاحته فائدة لهم، ولا يعني ذلك أن كل التنظيمات التي ظهرت في العقود الأخيرة هي فروع من جماعة «الإخوان المسلمين» ولكن المؤكد هو أنها كلها تقريباً قد تأثرت بها وظهر معظمها كامتداد لفكر الجماعة حيث انتشرت فلسفة (الأصولية) وشاع فكر (الحاكمية)، ولقد انتقل الإسلام السياسي من مواجهته المزعومة للتأثير الغربي في المسلمين ليتجه إلى الداخل متعاملاً مع المجتمعات الإسلامية ذاتها، فولد الإرهاب الذي استهدف ترويع الآمنين وتخويف المجتمع وفرض الوصاية عليه، وكان من أشرس التنظيمات وأكثرها شهرة تنظيما «القاعدة» و «داعش» اللذان لعبا دوراً دموياً لطّخ صورة الإسلام وهو منه براء.
ثانياً: لقد ظهر تنظيم «داعش» على المسرح السياسي منذ سنوات قليلة ولم يفهم الكثيرون أنه امتداد لتنظيم «القاعدة» وعناصره الأشد شراسة وقد استثمر ذلك التنظيم الوليد ما جرى في كل من العراق وسورية وربط في اختصار اسمه بين القطرين العربيين الشقيقين، في ظل ظروف بالغة الصعوبة واجهت كلاً منهما بل وزاد على ذلك إعلانه ما سماه «الدولة الإسلامية» والتي دأبت (الميديا) الغربية على تكرار اسم «الدولة الإسلامية» للتعبير عن تنظيم «داعش» الإرهابي في محاولة مقصودة لا تخلو من رغبة دفينة في الإساءة الى الإسلام وربطه بالإرهاب، ولقد مارس ذلك التنظيم من مظاهر العنف البشع والممارسات الإرهابية الدموية ما لم تشهده عصور التاريخ برمتها، فقد أسرف عناصره في الذبح والقتل والحرق وتنفيذ الإعدامات الجماعية، وذهبوا إلى أبعد من ذلك بإصدار جوازات السفر وسك النقود وبيع البترول، وبدأوا يفكرون في الموصل العراقية عاصمة لخلافتهم المزعومة وبعض المناطق السورية امتداداً لحكمهم الغاشم، بل تجاوزت طموحاتهم ذلك كله للاتجاه غرباً إلى ليبيا وأرض الصحراء الكبرى وصولاً إلى حلمهم بإقامة إمارة إسلامية في سيناء. لقد أعاد تنظيم «داعش» إلى الأذهان تصرفات الخوارج في القرون الأولى للهجرة وعمليات التكفير العشوائي التي مارستها جماعات متطرفة في مشاهد بشعة هزت الضمير العالمي وحركت الجميع في حرب مقدسة على الإرهاب وجرائمه.
ثالثاً: ليس من شك في أن تنظيم «داعش» جذب إليه عشرات الآلاف من الشباب المأزوم وقد لا يعرف بعضهم شيئاً عن الإسلام ولا عن تعاليمه السمحاء، ولقد لاحظنا وجود نسبة لا بأس بها من الأجانب غير العرب بل أحياناً من غير المسلمين أيضاً، ولقد أمعنوا في سفك الدماء وسبي النساء وتصدير الإرهاب في كل اتجاه، ولقد أدت تصرفات ذلك التنظيم إلى ظهور عدد من الدول الرافضة لذلك المد الآثم وبدأ الحديث عن جبهة دولية لمكافحة الإرهاب. وفي ظني أن مثل هذا الأمر لن يتحقق إلا باستقرار الوضع في العراق الذي تمكن من طرد فلول «داعش»، وأيضاً لا بد من حل للمسألة السورية حتى يمكن تعقب فلول «الدواعش» وحسم أمر ظهورهم، ولا شك في أن دول المنطقة سوف تعاني مستقبلاً من تلك العناصر التي هربت من الموصل وغيرها من المناطق المحررة والتي تسعى إلى استعادة مظاهر وجودها وجمع شمل صفوفها وتكثيف الحرب الإعلامية على النظم القائمة والدخول معها في معارك لا بد أن تطول.
رابعاً: لم تكن الفاجعة الحقيقية فقط في قيام تنظيم «داعش» ولكن في من مولوه وسلحوه ووفروا له الملاذات الآمنة، فهم شركاء بالضرورة في جرائمه ويتحملون أمام البشرية والتاريخ جزءاً من المسؤولية عن تلك الجرائم التي ارتكبت والأرواح التي أزهقت والأموال التي أهدرت، ولقد اكتشفنا جميعاً أن الإرهاب يبدو كالنار التي يمكن أن تحرق الجميع من دون استثناء وأن الذين يتوهمون أنهم يستخدمونه لضرب قوى أخرى هم واهمون، فالدور عليهم إن عاجلاً أو آجلاً لأن العمل الإرهابي يقوم على منطق الابتزاز وتحقيق الأهداف بالقوة من دون غيرها، ولذلك فإنه من الحمق البالغ أن نتوهم أن الإرهاب سوف يصنع دولاً أو يقود أنظمة، فالمؤكد أنه لن يستطيع ذلك لأن سوابق التاريخ تؤكد أن تلك الجماعات من الخوارج ينتهي دورها عندما يفيق القائمون عليها ويعودون إلى حظيرة المجتمع السوي والدولة العصرية.
خامساً: لقد انتهت المعارك في شمال العراق – مرحلياً – بهزيمة «الدواعش»، ولكن ذلك لا يبدو في ظني نهاية المطاف فالإرهاب سوف يواصل تجميع صفوفه ونشر جرائمه وإحداث ضجة عالمية توحي بأنه في كل مكان وأن يده الطولى تصل إلى كل موقع، وقد يكون ذلك صحيحاً لفترة قصيرة أو لمرحلة عابرة ولكنه أمر لا يدوم طويلاً ولا يستمر أبداً، ولقد نزحت فلول التنظيم وعبرت الحدود العراقية لتنضم إلى عناصرها في الرقة السورية ولكننا نتذكر اليوم سقوط الموصل في أيديهم منذ أكثر من ثلاث سنوات وكيف تمت استعادتها بحرب دامية تمكن فيها المقاتل العراقي من تحرير ترابه الوطني ونعود للبحث في جذور المشكلة لكي يعترف الجميع بأن غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق كان السبب الذي فتح الأبواب أمام كل هذه الصراعات الدامية والحروب الطويلة، ونحن ننظر إلى كل من إيران وتركيا باعتبارهما دولتين لهما موقف مختلف من «داعش»، فإيران تحصد إيجابياً ما يحدث لأسباب مذهبية وسياسية، أما تركيا التي دعمت التنظيم في بدايته فإنها تراقب الموقف خشية التداعيات المنتظرة من إعلان دولة كردية أو تهديد مباشر للمصالح التركية، وتبقى إسرائيل هي ذلك الرقم الصعب في كل ما جرى حتى أننا لا نستطيع حتى الآن إعلان نفي قاطع لعلاقة الدولة العبرية بذلك التنظيم الذي لم يقترب من حدودها وكأنه عقد معاهدة سلام صامتة معها، فالرواية طويلة ولم تتم بعد فصولها الحاسمة.
إنني أزعم أن الفكر «الداعشي» الذي يقوم على منطق الدولة المتحركة لن ينهض طويلاً ولن يستمر كثيراً لأنه قام على توظيف أوضاع خاطئة في المنطقة وقد حان الوقت للخروج منها والخلاص من آثارها، أما الحديث عن الدولة المتحركة التي يتحدث عنها بعض خبراء الإرهاب وأيضاً عدد من العناصر المتعاطفة مع «داعش» فإننا نقول إن ذلك هراء لأنه لا يستند إلى أساس فكري أو دليل نظري، فتنظيم «داعش» تنظيم إرهابي عابر كتب تاريخه الأحمق بدماء الأبرياء وترويع الشعوب وتشويه الإسلام، وسوف تنزوي فلول ذلك التنظيم الدموي لأنها تمضي ضد حركة التطور الإنساني الصاعد، فالحياة تتجدد والعقول تلتقي ولكن لا بد أن تسقط الأوراق السامة مهما طال الانتظار أو اشتد الكرب وانتشر البلاء.
* كاتب مصري