سام منسى:
يواجه لبنان اليوم أزمة تشكيل الحكومة على خلفية ما بات يعرف بالتسوية الرئاسية التي جرت عام 2016، ووصل بموجبها العماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة؛ على أن يكون سعد الحريري خلال عهده رئيساً للحكومة. يبدو أن الرئيس المكلف سعد الحريري عازم على تقديم تشكيلة حكومية في الأيام القليلة المقبلة؛ ما يدفع إلى مراجعة للمتغيرات التي حصلت لبنانياً وإقليمياً ودولياً منذ هذه التسوية الرئاسية، وكيف ستؤثر على تشكيل الحكومة العتيدة.
منذ تولي الرئيس عون سدة الرئاسة، شهدت الساحة المحلية أحداثاً وممارسات عدة ستلعب دورها في عملية تأليف الحكومة والتشكيلة التي ستخرج عليها، وأهمها:
– تكريس ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة في معركة جرود عرسال في صيف عام 2017، التي انطلقت بتغطية من حكومة سعد الحريري، وانتهت بإخراج الجماعات المتطرفة المسلحة من هذه المنطقة، مضفية شرعية على الفزلكات التي قدمها «حزب الله» لتبرير استخدام سلاحه في الداخل والخارج معاً.
– حصول «حزب الله» وحلفائه على أكثرية نيابية قابلها تحقيق القوات اللبنانية تقدماً ملحوظاً في مواجهة التيار الوطني الحر على الساحة المسيحية، ويتوقع أن تعكس التشكيلة الحكومية الواقع النيابي الجديد.
– توتر في العلاقات بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وصل إلى حد نسف تفاهم معراب، يضاف إلى ذلك ملامح تفاهم جديد بين القوات اللبنانية والمردة، بما يدل على هشاشة هذا النوع من التفاهمات وتقدم الأهداف والمصالح الآنية والمحلية الضيقة على مضمونها السياسي.
– تجاوزات غير مسبوقة للدستور واتفاق الطائف تحت عنوان الشراكة والمشاركة عبر ممارسات ومواقف تهدف إلى إعادة طرح صلاحيات الرئاستين الأولى والثالثة، والحديث عن وضع معايير لتشكيل الحكومات، ونسف لمبدأ الفصل بين السلطات كما خرق واضح لأساسيات الأنظمة البرلمانية.
– وضع اقتصادي متدهور حفَّز بعض الدول وعلى رأسها فرنسا على عقد مؤتمر سيدر، انتهى بتعهدات دولية بمساعدة لبنان على إعادة بناء بناه التحتية مقابل سلة من الإصلاحات. هذا وسط عقوبات دولية متصاعدة على إيران و«حزب الله».
أما في الإقليم، فالأبرز هو:
– ملامح لغلبة النظام وحلفائه في سوريا وتنامي الدور الروسي في المشرق العربي إنما على وقع توتر إسرائيلي – إيراني شديد فوق الأراضي السورية أدى إلى خلافات بين موسكو وتل أبيب.
– تحول في السياسة السعودية في اتجاه أكثر جرأة ووضوحاً، وبروز حدة التجاذب الخليجي – الإيراني، ولا سيما في الحرب الدائرة في اليمن، إضافة إلى استمرار الخلاف مع قطر والشكوك التي تحيط بأدوارها على أكثر من صعيد.
– فقدان الولايات المتحدة حليفها التركي الذي ينسج أكثر وأكثر علاقات دافئة مع روسيا وإيران، وذلك في ظل الانحسار النسبي لنجمي أنقرة وطهران في المنطقة لصالح موسكو.
– تبدد ما سمي بصفقة العصر على جبهة النزاع العربي – الإسرائيلي، واحتمال فقدان إسرائيل حرية حركتها الجوية بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية في سوريا.
أما في الشأن الدولي، فالأبرز يبقى:
– خروج واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران وفرضها عقوبات اقتصادية جديدة عليها وعلى أذرعتها في المنطقة.
– الجشع الروسي على الجبهات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية، بدءاً من ملعبها الخلفي في القرم مروراً بآسيا ووصولاً إلى المشرق العربي.
– ارتفاع منسوب الخوف من أزمة تدفق اللاجئين إلى أوروبا، وتصاعد شعبية الأحزاب اليمينية المتشددة على حساب القوى الليبرالية والمعتدلة.
على هذه الخلفية، ما هي الخيارات المتاحة أمام الرئيس المكلف سعد الحريري؟
يصعب الحسم بما يمكن أن تؤول إليه الأمور، إلا أنه يمكن اختصار الخيارات المتاحة أمام الرئيس الحريري بثلاثة:
الأول، حكومة متوازنة لا غلبة فيها لفريق على آخر، وهذا ما يسعى الحريري إلى تحقيقه. إن حظوظ هذا السيناريو ضعيفة كونه يناقض ما سعت إليه ولا تزال جبهة «حزب الله» منذ اغتيال الرئيس الحريري حتى اليوم. هذا الفريق لن يقبل بفقدان قدرته على التأثير داخل الحكومة وعكس مكاسبه محلياً وإقليمياً.
الثاني، تقديم تشكيلة حكومة تعكس تنازلات يقدمها الرئيس الحريري وحلفاؤه؛ ما يعني غلبة لفريق ما يسمى «حزب الله». هذا الأمر قد يستدعي نقزة عربية وخليجية بخاصة كما غربية أيضاً، ولا سيما أميركية، قد تصل إلى حد اعتبار لبنان دولة ساقطة نهائياً في الحضن الإيراني وتخرجه من حساباتها واهتماماتها. هذا الخيار صعب وسيكون مكلفاً سياسياً للرئيس الحريري نفسه وسط شعار يتردد في أوساطه هو «كفى تنازلات»، وقد يعرّض لبنان لمخاطر اقتصادية ومالية، ولا سيما في هذه المرحلة الحرجة ويسرع ما يحكى عن انهيار اقتصادي، علماً بأنه إذا كانت فرنسا متحمسة لمساعدة لبنان والعمل على تنفيذ مخرجات «سيدر»، فالولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية لا تشاطرها حماستها.
السيناريو الثالث، هو اعتذار الرئيس الحريري. سيكون لهذا الخيار تداعيات على الرئيس الحريري نفسه الذي قد يضطر إلى مغادرة البلاد كما حصل سابقاً، كما على الداخل اللبناني وعلى صعيد علاقات لبنان الخارجية وفق ما ذكرناه من تداعيات السيناريو الثاني. كما أن الفريق الآخر في حاجة إلى غطاء الرئيس الحريري وصورة حكومة وحدة وطنية جراء الظروف الضاغطة التي يتعرض إليها، ولا سيما العقوبات. أضف إلى ذلك تعذر ترجمة سياسية محلية لهذا السيناريو عبر خلق جبهة معارضة عريضة وازنة تستطيع ولو من خارج الحكم لعب دور فاعل.
نحن إذن في دوامة كما عند كل استحقاق دستوري يدخل معه لبنان في أزمة تؤكد مرة أخرى أن البلاد باتت قاب قوسين من فشل الدولة، وأنها عاجزة عن إدارة شؤونها دون أوصياء من الخارج يتدخلون لينسجوا تسويات ظرفية لا نستطيع وصفها إلا بقنابل موقوتة تمهد لأزمات جديدة. فأي قنبلة جديدة تنتظر لبنان؟
نجح لبنان في إدارة تعدديته بنظام سياسي طائفي انتظمت في ظله الحياة السياسية على وقع مبدأ لا غالب ولا مغلوب. بعد انتهاء الحرب الأهلية العسكرية عام 1989، دخل القرار السياسي الوطني في غيبوبة لأن الوصي السوري بات يمسك بخيوطه بيد من حديد. انسحبت سوريا من لبنان عام 2005 ليعتمد بعدها ساسة البلاد نهج «الديمقراطية التوافقية» في إدارة شؤونها. ما لبثت «الديمقراطية» أن سقطت وتبعتها «التوافقية»؛ لأن المفهومين لا يستقيمان بوجود طرف مسلح تسلم شعلة الوصاية من سوريا قبل خروجها وبات يسيّر دفة القيادة وفقاً لمصالحه ومصالح راعيه الإقليمي. سقط مبدأ لا غالب ولا مغلوب، ومهما كان الخيار الذي سترسو عليه التشكيلة الحكومية، سيبقى الغالب هو «حزب الله» والمغلوب هو لبنان.
البلاد في حال لا تحسد عليها، وانحسار الخيارات يضع الجميع، وعلى رأسهم الرئيس الحريري، أمام ما يمكن اختصاره بحيرة الحيران في حكم لبنان بين واشنطن وطهران.