خَرَج الائتلافُ الحاكم في لبنان من جلسةِ الثقةِ بحكومةِ الرئيس حسان دياب في البرلمان أمس، مُثْخَناً بـ«ندوبٍ» تَرَكَها المسارُ الدستوري والسياسي والشعبي ليومٍ صاخِبٍ ملأه الشارع بتحركاتٍ غاضبة بعنوان «لا ثقة» لم تفرْملها ضراوةُ المواجهاتِ التي خاضتْها القوى الأمنية مع المحتجّين «على أسوار» مقرّ مجلس النواب الذي شهد مناقشاتٍ ومفارقاتٍ عكستْ ارتباك السلطة و«طراوة» الأرض التي تقف عليها «حكومة مواجهات التحديات».
وقبل أن تفْرك الشمس عينيْها بعد ليلٍ من البرد القارس، ارتسمتْ مؤشراتُ «يوم ساخِنٍ» أعدّت له «ثورة 17 أكتوبر» بعنايةٍ في محاولةٍ لمنْع انعقاد جلسة الثقة أو محاصرة النواب داخل مقرّ البرلمان، وقابلتْه السلطة بخطّة أمنية لفرْض اكتمال النصاب الدستوري لحكومةٍ يفترض أن تكون انطلاقتها مدجّجة بكل «محركات الدفْع» في مهمّتها لإنقاذ البلاد من «أزمة القرن» السياسية – المالية – المصرفية – النقدية – الاقتصادية – المعيشية التي لم تعرف مثيلاً لها منذ مئة عام، هي عمر لبنان.
ولم تخيّب وقائع «يوم الثقة» التوقعات، سواء في الشارع الذي شهد «ثلاثاء غضب» تخلّلتْه صِداماتٍ بين «أبناء الانتفاضة» والقوى الأمنية في محيط مجلس النواب أفضت إلى سقوط ما يناهز 400 جريح بينهم نحو 50 نُقلوا إلى المستشفيات والباقون عولجوا ميدانياً، أو تحت قبّة البرلمان الذي وصل إليه «ممثّلو الشعب» بما يشبه «التسلل» فجراً أو على دراجات نارية أو من ممرات آمنة استُحدثت للالتفاف على الحواجز البشرية للثوار أو من مكاتبهم التي باتوا ليلتهم فيها، وذلك لتأمين نصابٍ توافَر «على المنخار» (تتطلب الجلسة حضور النصف زائد واحداً أي 65 نائباً) وبعد «دخول شاقّ» لبعض النواب الذين وقعت سياراتهم في قبضة المحتجّين فتعرّضت لأضرار بفعْل رشْقها بالحجارة وصولاً إلى التعرض للنائب سليم سعادة. ومن قلْب دخان القنابل المسيّلة للدموع التي كانت تنْهمر على المُنْتَفِضين خارج «زنّار الاسمنت» الذي عَزَلَ البرلمان، وهو الدخان الذي «لَمَسه» النواب عند وصولهم وكأن «نار الغضب» تطرق أبواب البرلمان، خرجتْ «حكومة نصف لبنان» بعد نحو 7 ساعات من المناقشات التي جرى تكثيفها واختصارها لتنتهي في يوم واحد، بثقةٍ «مسلوقة» (63 نائباً فيما حجب 20 نائباً الثقة وامتنع نائب واحد عن التصويت) وتحت خطّ النصف زائد واحد من الأعضاء الذين يؤلفون البرلمان (128 نائباً)، في تطوّر اختزل دلالات كبيرة داخلية ذات انعكاسات خارجية.
وسارعت أوساطٌ واسعة الاطلاع في بيروت، إلى اعتبار أن مشهدية الأمس وجّهت رسالة بالغة السلبية حيال الأرضية غير الصلبة التي تنطلق منها حكومةٌ تحتاج إلى كامل الزخم السياسي والشعبي وإلى ثقة «قياسية» لطمأنة المجتمعين العربي والدولي إلى وجود «شبكة أمان» داخلية ومظلّة دعْم حقيقية لكل الإجراءات المؤلمة التي يتعيّن أن تتخذها في إطار «الجراحة المالية» التي لا مفرّ منها للإفلات من الانهيار الكبير والتي لا بد أن يكون الخارج شريكاً فيها.
وقالت الأوساط لـ«الراي»، إن نيل الحكومة أمس تحت جنح الظلام ثقة جاءت أقلّ من التي كُلف بها دياب (69 نائباً) ولم تصل إلى الأكثرية المطلقة (65 نائباً)، وإن كان ذلك لا يشكّل عيْباً دستورياً (الثقة تتطلب النصف زائد واحد من عدد الحاضرين)، إلا أن ذلك يعكس أمريْن: الأوّل أن حتى الائتلاف الحاكم الذي تشكّل ركيزته الأكثريتان الشيعية («حزب الله» ورئيس مجلس النواب نبيه بري) والمسيحية (فريق رئيس الجمهورية ميشال عون) لم ينجح بالحفاظ على منسوب الدعم نفسه للرئيس دياب الذي يعاني أساساً من عدم وجود غطاء سني كافٍ له، وهو ما يُعتبر «ضربة معنوية» له.
والأمر الثاني، أن خروج الحكومة بثقةٍ «ضئيلة» أعاد إلى الأذهان تجربتيْن سابقتيْن فقط لم تنل فيهما حكومةٌ منذ 1992 رضى الغالبية المطلقة، وهما حكومة الرئيس عمر كرامي العام 2004 (نالت 59 صوتاً) وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي في 2011 (63 صوتاً).
وقد اعتبرتْ الأوساطُ واسعة الاطلاع، أن هاتين المحطتين رافقتا حكومتيْ «لون واحد» وأسّستا لمرحلةٍ انقسامية عمودية، ذلك أن الأولى كانت «حكومة التمديد» للرئيس إميل لحود وسبقتْ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 وفتحت البلاد على فصل دموي – سياسي ما زالت تداعياته ماثلة حتى اليوم، في حين أن حكومة ميقاتي التي جاءت بعد الانقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري شقّت الطريق أمام بدء المسار الانحداري المالي – الاستثماري الذي بلغ أوجه اليوم، وذلك بعدما برزت معه أول «عين حمراء» عربية – خليجية على لبنان على خلفية مؤشرات توالت على خروج بيروت من الحضن العربي وعلى تغطية انغماس «حزب الله» العسكري في ساحاتٍ عربية.
واستوقف الأوساط نفسها، أن هذه الإشارات الخطيرة لم تدفع السلطة إلى التروي بالتعاطي مع المحتجين، بل على العكس فهي مارست ما يشبه «الهروب إلى الأمام»، إلى مزيد من الإفراط باستخدام «الحزم» مع المحتجين في واحدة من أكثر الصدامات حدة منذ بدء الانتفاضة وتخللها اللجوء إلى الرصاص المطاطي والعصي والقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه في سياق مواجهاتٍ نقالة في شوارع مؤدية إلى مقرّ البرلمان وفي ساحات كان الثوار باتوا ليلتهم فيها.
ولم تحجب سخونة الأرض وبعض مشاهد الشغب الذي لم يوفّر أحد المصارف في وسط بيروت الذي بدا كأنه «ساحة حرب»، وقائع جلسة الثقة التي حرص بري على إنهائها في يوم واحد (عوض يومين) والتي كان شابَها إرباكٌ دستوري في بدايتها بعد «شُبهة» افتتاحها قبل أن يكتمل النصاب، وهو ما نفاه رئيس البرلمان الذي أعلن أنه افتتح الجلسة بحضور 67 نائباً، الأمر الذي خالَفه ضمناً كلام النائب وائل أبو فاعور (من كتلة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط) الذي أعلن أنه «عندما دخل أربعة نواب من اللقاء الديموقراطي الجلسة كانت بدأتْ، ومن ثم انا انضممتُ اليهم»، مضيفاً «ليس من واجبنا قول إن كان النصاب تأمّن وليس من مسؤوليتنا عدّ النواب. نحن شاركنا انطلاقاً مما كنا أعلناه سابقاً بالمشاركة وحجب الثقة».
وإذ تمّ التعاطي مع كلام ابو فاعور على أنه دليل على «عدم دستورية الجلسة»، وسط اعتبار بعض الأوساط أن رئيس البرلمان ربما لجأ إلى قرع الجرس إيذاناً ببدء الجلسة لقطْع الطريق على محاذرة نواب «القوات اللبنانية» دخول القاعة قبل ان يتوافر النصاب كي لا يكونوا هم مَن أمّنوه ولا سيما في ظل تأخُّر نواب «المستقبل» (كتلة الحريري) في الحضور واقتصار المشاركة على خمسة منهم (عادوا والتحقوا بالجلسة)، لفتت الأوساط المطلعة إلى مسألتين رافقتا الجلسة على مقلبيْ السلطة والمعارضة.
ولاحظت الأوساط ان «حزب الله» وبلسان رئيس كتلة نوابه محمد رعد، حرص على محاولة ردّ تهمة أن هذه «حكومة الحزب»، وذلك بكلامه على «ان هذه الحكومة لا تشبه فريقنا السياسي»، في موازاة تقديم رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ما يشبه «الوصايا» للحكومة الجديدة في ما خص مقاربة الأزمة المالية، داعياً بعدما «صار الوضع افلاساً»، إلى «وقف سياسة تثبيت سعر الصرف بأي ثمن لأنها بكلفة عالية وبكذبة كبيرة، وقوننة الـCapital Control وانتظامه، وإعادة هيكلة الدين بحسب الأصول بعد التفاوض وبعد إنهاء درس ومسح شامل مع حماية المودعين الصغار».
وعلى مقلب المعارضة التي أعلنتْ عن نفسها أمس وإن من خارج أي إطار جبْهوي، على لسان نواب «المستقبل» و«التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية» الذين حجبوا الثقة، فقد لفت في موازاة التركيز على شكل الحكومة «المحاصصتي» وملفّ الكهرباء «المستنسخة» خطته من الحكومة السابقة، تصويب النائب محمد الحجار (من كتلة الحريري) على سلاح «حزب الله» بكلامه عن «أن البيان الوزاري لم يشر إلى ضرورة عقد طاولة حوار حول استراتيجية دفاعية تضع سلاح حزب الله تحت إمرة الدولة وقرارها».
وأضاف: «وكلنا يعلم أن عدم بت هذا الموضوع يشكل نقطة سلبية في تعاطي المجتمع العربي والدولي مع الدولة اللبنانية، إلا إذا كانت حكومة العهد قررت خصخصة الدفاع عن الأرض والسيادة».
الشرق الاوسط