حسان حيدر :
يقال إن الأمور تقاس بنتائجها. وليست هناك نتائج أوضح من تلك التي خلفتها ثلاث سنوات ونيّف من ظهور تنظيم «داعش» وإعلان أبو بكر البغدادي «دولة الخلافة» في سورية والعراق، إذ انتشر التنظيم الإرهابي في المدن والحواضر السنّية في البلدين، ونكّل بأهلها اولاً، ثم بمحيطها، قبل ان تُشن حروب لاستعادتها منه، فتقضي على ما فيها من بنية فوقية وتحتية، وتشرّد من بقي من سكانها، والأهم والأخطر انها تلغي قدرة هذه المدن والحواضر على المشاركة السياسية، بعدما حولتها ركاماً وجعلت أصحابها لاجئين ومشردين.
ومع قرب إعلان «الانتصار» على التنظيم ودحره من مناطق انتشاره، تبدو الصورة قاتمة بالنسبة الى السنّة العراقيين والسوريين، بما يعيد طرح تساؤلات لا تزال بلا إجابات عن المستفيد من ظهور «داعش» ومن نتائج الحرب عليه، بعدما حاول البعض إشاعة أنه كان فقط نتيجة لاستياء السنّة في سورية والعراق وغضبهم من التهميش والإبعاد منذ قيام نظام حافظ الأسد وبعد سقوط نظام صدام حسين.
ولو استعرضنا تاريخ المدن السنّية وأهلها في العراق وسورية، لوجدنا انها كانت تشترك جميعها في نشاط جامع هو التجارة، ما جعلها معبراً للطرق التجارية منذ القدم. والتجار عادة يعملون بموجب ما تمليه عليهم تجارتهم وثقافتها: البناء والانفتاح والتفاوض. ولم يسبق ان عرف عن السنّة العراقيين والسوريين اجماعهم على تطرف ديني، تماماً مثل السنّة اللبنانيين الذين تمنعت غالبيتهم الساحقة عن التورط في وحول الحرب الأهلية التي عصفت ببلادهم، ولا يزالون على رفضهم الانغماس في العنف ومنطق الميليشيات على رغم استهدافهم المتكرر منذ وضعت الحرب أوزارها.
ومع ان حزب «البعث» كان يدّعي قسراً النطق باسم السنّة العراقيين وتمثيلهم، فإن أذاه وعنفه طاولاهم مثلما طاولا مواطنيهم الشيعة، وفرض عليهم مناخ الترهيب نفسه. لكن أخْذَ السنّة جميعهم بجريرة نظام صدام، ثم بجريرة الإرهاب، خدم ويخدم هدف إيران في تأليب المذاهب على بعضها سبيلاً إلى الإمساك بحكم العراق. وهو منطق يستخدم ايضاً في سورية التي اندفعت اليها الميليشيات الإيرانية «دفاعاً عن المناطق الشيعية».
كانت الموصل ثاني مدن العراق من حيث عدد السكان، ومركز التجارة مع سورية وتركيا، قبل ان يصلها «داعش»، ثم يدمرها جيش بغداد وميليشيا «الحشد» الإيرانية الهوى. وكانت محافظة الأنبار التي تبلغ مساحتها ثلث مساحة العراق مركزاً تاريخياً للتجارة. لكن شهرتها الحديثة جاءت من تصديها للاحتلال الأميركي الذي استعصت على قواته عاماً كاملاً بعد الغزو. لذا كان التنكيل بها وبسكانها مطلباً للميليشات الشيعية. ويتراوح حجم الدمار في هاتين الحاضرتين بعد «تحريرهما» من «داعش» ما بين 80 و 90 في المئة.
وفي سورية، كانت حلب مدينة التجارة الأولى في الداخل السوري، وبقيت لقرون أكبر المدن السورية وثالث مدينة في الدولة العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة. وصارت في العصر الحديث العاصمة الاقتصادية لسورية، قبل حكم الأسد وخلاله، إلى أن جاء قرار الميليشيات الإيرانية بتدميرها و «تأديب» أهلها.
وكانت حمص ثاني مدينة بعد درعا تنضم إلى المطالبين سلماً بإسقاط نظام الأسد، لهذا جاء الانتقام منها مريعاً، مع أنه لم يكن للمتطرفين وجود يذكر فيها. ولم تسلم تدمر الأثرية في محافظة حمص من التخريب على يد «داعش» وقوات النظام على السواء.
أما الرقة ذات التاريخ العريق، فأزال القصف الجوي والصاروخي ما يزيد عن سبعين في المئة من مبانيها، وقتل من سكانها ما يزيد بكثير عن ضحايا «داعش». في حين تتعرّض دير الزور حالياً لقصف روسي وأميركي لا يفرق بين مدنييها ومتطرفي البغدادي.
والخلاصة، أن اختيار مناطق «دولة الخلافة» لم يكن اعتباطاً، والتهمة التي وجهت إلى سكان المدن السنّية بأنهم حضنوا الإرهابيين لم تكن بريئة إطلاقاً، لا سيما بعد انسحابات الجيشين العراقي والسوري المشبوهة والمتكرّرة أمام «داعش». والواقع أن وجود التنظيم المتطرّف شكّل الذريعة المثلى للانتقام من السنّة، كتلاً بشرية وأمكنة، ولإضعاف دورهم ومكانتهم في مساحة «الهلال» الإيراني. وسيستمر الانتقام نفسه عبر سياسة الابتزاز الإنساني والسياسي في مراحل إعادة الإعمار.