سام منسى:
بات ضعف الذاكرة سمة لدى غالبية اللبنانيين، يصعب معها فهم تصديقهم لحقيقة السجال الدائر منذ مضي أكثر من ثلاثة أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل أول حكومة بعد الانتخابات النيابية التي تأخرت خمس سنوات.
لن نسترسل بالعودة إلى بدايات المأساة اللبنانية منذ العام 1969 أو العام 1975. تاريخ اندلاع الحرب اللبنانية، بل نبدأ مع مفصل رئيسي في الأزمة، أي اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير (شباط) 2005 والتطورات التي أعقبته على أكثر من صعيد سياسي وأمني واقتصادي، لا سيما الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة في شهري فبراير (شباط) ومارس (آذار) وما استتبعها من انسحاب للجيش السوري من لبنان وانقسام اللبنانيين بين موالين لسوريا وللمحور الإقليمي الذي تمثله ومناهضين لها، فكانت حركتا 14 آذار و8 آذار.
ومع نهاية ولاية الرئيس إميل لحود الممددة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2007. عجز المجلس النيابي عن انتخاب رئيس جديد إلا بعد احتدام الخلافات وتدهور الوضع الأمني إثر اجتياح «حزب الله» العاصمة وبعض المناطق في الجبل في 7 مايو (أيار) 2008. جاء اتفاق الدوحة ليمهد الطريق أمام انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في 25 مايو (أيار) 2008. وسط ترحيب عربي ودولي. ورغم أن تفاهم الدوحة جاء نتيجة الضغوط الأمنية، إلا أن البعض اعتقد بتفاؤل أن الانتخابات التشريعية القادمة والتي ستجري دون الوصاية السورية ستأتي بالترياق، مفترضا أنها ستشكل انطلاقة سياسية جديدة يستعيد لبنان معها سيادته المفقودة!
تعزز هذا التفاؤل عندما نجح فريق 14 آذار بتحقيق غلبة في الانتخابات، لكنه عجز عن ترجمة هذه الغلبة على الأرض، وما لبث فريق 8 آذار أن قلب الطاولة لمصلحته بادعائه أولاً التمتع بالأكثرية الشرعية، وبالانقلاب ثانياً على الرئيس سعد الحريري بعد استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة واعتبارها غير ميثاقية. تبددت للمرة الأولى الآمال المعقودة، وولدت حكومة جديدة حاكت في تشكيلتها حكومات مرحلة الوصاية السورية. ورغم أن هذه الحكومة هي صاحبة سياسة «النأي بالنفس» عن النزاعات الإقليمية، فقد شهدت ولايتها تدخل «حزب الله» في النزاع السوري إلى جانب النظام ضاربا عرض الحائط بهذه السياسة وقاضما أكثر من سيادة الدولة.
بعد انتهاء ولاية الرئيس سليمان، دخل لبنان في متاهة استحقاق جديد وبقي دون رئيس للجمهورية طيلة عامين ونصف جراء إصرار فريق 8 آذار على انتخاب العماد ميشال عون. تمحور الخطاب السياسي طيلة فترة الفراغ في الرئاسة على ضرورة انتخاب رئيس مهما كان الثمن، مصوراً أنه الطريق السريع لحل جميع مشاكل البلاد. انخرطت ثلاثة أعمدة من ركائز حركة 14 آذار، تيار المستقبل والقوات اللبنانية ووليد جنبلاط، فيما وصف بالفصل الأول من «التسوية»: وصول عون إلى سدة الرئاسة على أن يتولى الرئيس سعد الحريري رئاسة مجلس الوزراء وتلتزم الحكومة اللبنانية بسياسة النأي بالنفس. تجددت الآمال بأن تستعيد البلاد بعضا من التوازن السياسي، لكنها تبددت ثانية مع نتائج الانتخابات التشريعية التي سجلت قضماً جديداً لصالح «حزب الله».
فهذا «الطريق السريع» لم ير النور، وبعد انتخاب عون، تم توجيه الخطاب إلى ضرورة وضع قانون انتخاب جديد لن تستقيم من دونه الحياة السياسية. وجاء الفصل الثاني من «التسوية»، وتم التوافق بسحر ساحر على قانون انتخاب على أساس النسبية صوّر للبنانيين أنه سيضخ دما جديدا في العملية السياسية، إلا أنه في الواقع فصّل على قياس «حزب الله» وحلفائه، وأعاد ضمن تحالفات عجيبة غريبة إنتاج الطبقة السياسية نفسها، مشرذماً فريق 14 آذار دون أن يمس شعرة واحدة من الفريق الآخر.
إن الهدف من استعراض شريط الأحداث هذا هو القول إن تعثر تشكيل الحكومة راهناً، ما هو إلا فصل جديد من المسار نفسه الذي قطعته جميع الاستحقاقات السياسية والدستورية، وقادته سياسة القضم «بالقانون» التي يعتمدها «حزب الله». إن «التسوية» بفصليها، لم يستتبعها تغيير حرف واحد من خطاب أو ممارسة الطرف «الممانع والمقاوم»، لا على صعيد الداخل أو لجهة انخراطه المتمادي في نزاعات المنطقة. ننتظر اليوم الفصل الثالث من هذه «التسوية»: فإما أن تتشكل الحكومة على غرار ما أفضت إليه انتخابات الرئاسة والانتخابات التشريعية من غلبة للفريق «الممانع» أو لا تتشكل. فهكذا حكومة يصح وصفها بالمحطة ما قبل الأخيرة لاستكمال الانقلاب الناعم «وبالقانون» الذي ينفذه «حزب الله» والذي ألغى مفاعيل ما سمي يومها «ثورة الأرز». إن الانقضاض على هذه الانتفاضة بدأ منذ اليوم الأول إن لم نقل الساعة الأولى، ولا يزال مستمراً وفق نهج القضم ثم الهضم، ثم القضم مجددا وهكذا دواليك.
إن ما يحصل هو محاولة الإمساك بالسلطة التنفيذية بعد الإمساك بالرئاسة وبالسلطة التشريعية، لتحصين الاستيلاء الناعم على السلطة. المحطة الأخيرة للانقلاب ستكون في التشريعات التي سيسنّها المجلس الحالي والقرارات الإجرائية التي ستتخذها الحكومة بالتشكيلة المتوقع أن تخرج بها وفي التعيينات الإدارية والأمنية، وجميعها ستغير وجه لبنان بما لا يسمح بالرجوع عنه، ناهيك عن سياسة خارجية ستضم البلاد بشكل رسمي إلى الفلك الإيراني.
إن الفوضى التي تسود المنطقة وتردد دول الغرب عامة إزاءها، ستكمل محاولة سيطرة «حزب الله» الكاملة على لبنان، فيما الفريق الآخر مشغول بحقيبة وزارية من هنا وبمقعد نيابي من هناك، وهو غافل أو متجاهل أن في لبنان هناك جهة واحدة محركة لسياساته وهي «حزب الله»، وأنه حتى لو شكلت حكومة متوازنة فأقصى إنجازاتها سيكون شراء المزيد من الوقت يسمح بالمزيد من القضم والهضم.
إن جوهر المشكلة في لبنان لم يعد كما كان سابقاً في إدارة نظام المشاركة في السلطة والمحاصصة بين مكوناته، بل بات في الخلاف العميق الذي يطال قضايا رئيسية تبدأ مع الهوية الوطنية والقومية ولا تنتهي مع مفهوم الدولة وسيادتها.
كان جديراً بفريق 14 آذار أن يبذل بعضا من الجهد على تشكيل جبهة عريضة ولو من خارج السلطة بدل الشرذمة القائمة، تكون محاوراً واحداً في الداخل وأمام الجهات الإقليمية والدولية وتتكلم بلغة واحدة هي لغة إحباط «الانقلاب الناعم» وسياسة القضم الحاصلة.