تشي التطوراتُ المرتقبة في لبنان والمنطقة بأنّ التسوية السياسية في بيروت ستكون أمام اختباراتٍ أكثر قسوة من تلك التي شهدتْها على مدى نحو 10 أشهرٍ، أي منذ إنهاء الفراغ الرئاسي بانتخابِ الحليف المسيحي لـ «حزب الله» العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وعودة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري رئيساً لحكومةِ «ربْط نزاعٍ» حيال الملفات الخلافية ولا سيما الإقليمية، في مقدّمتها الموقف من الصراع في سورية.
فبيروت ما زالت تحت تأثيرِ المعركة الملتبسة في الجرود الشرقية المتاخمة للحدود مع سورية لطرْدِ جيوب الجماعات الإرهابية المحاصَرة، ونتائجها المثيرة للجدل خصوصاً في ظلّ سلوك «حزب الله» الذي فرَض توقيت المعركة بالتزامن مع ترسيم مناطق النفوذ في سورية، إضافة الى سيناريوهاتها العسكرية بما في ذلك حدود مشارَكة الجيش اللبناني فيها، ونهاياتها التي أفضتْ إلى تَفاوُض مشوبٍ بأسئلة كبيرة بشأن ترحيل «جبهة النصرة» أولاً ومن ثم «داعش».
وبالرغم من انتهاء معركة الجرود، إلا أنها لم تنتهِ لا في بيروت التي تعدّ لمراسم حداد على عسكرييها الثمانية الذين قتَلهم «داعش» بعد خطْفهم في اغسطس 2014 واكتُشفت رفاتهم بعدما تُرك التنظيم الإرهابي يَخرج بسلام في صفقةٍ أبرمها معه «حزب الله»، ولا في بغداد التي فاجأتْ الجميع بـ «انتفاضة» ضدّ «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصر الله رداً على نقْله «داعش» الى الحدود العراقية، ولا في «عيون» التحالف الدولي ضدّ الإرهاب وطائراته التي عرْقلتْ طريق «الدواعش»، ولا في استمرار «الإقامة الإجبارية» للقافلة التي غادرتْ الحدود السورية مع لبنان ولم تصل بعد إلى الحدود السورية مع العراق.
والأكثر إثارة في ملابسات هذه المعركة ومجرياتها، كان البيان البالغ الدلالات الذي أصدره «حزب الله» وشجب فيه محاولات التحالف الدولي عرْقلة طريق القافلة «وقيام الطائرات الأميركية بمنْع للباصات التي تقلّ مسلّحي (داعش) وعائلاتهم من التحرك، وتحاصرها في وسط الصحراء وتمنع ايضاً ان يصل اليهم أحد ولو لتقديم المساعدة الانسانية للعائلات والمرضى والجرحى وكبار السن»، داعياً المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية الى التدخل «لمنْع حصول مجزرة بشعة».
ولم يكن جفّ حبْرُ هذا البيان حتى «انفجرتْ» موجةٌ من ردّات الفعل راوحتْ بين الاستهجان والاستنكار لمضيّ «حزب الله» في موجبات صفقته مع قتَلة العسكريين اللبنانيين و«قطبها المَخْفيّة» عبر إظهارِ فائضٍ من الحرص على مسلّحي «داعش»، وبين هبّةٍ من التهكّمات على مواقع التواصل الاجتماعي ركّزت على ما وُصف بـ «اكتشاف (حزب الله) متأخّراً لوجود مدنيين على أرْض سورية لم يستحقوا النزعة الإنسانية يوم حوصروا في مضايا وغيرها ويوم قضوا اختناقاً بالسلاح الكيماوي».
ورغم الصدمة التي أثارها بيان «حزب الله» بأوساط خصومه والمطالبة بمحاسبته على صفقةٍ أتاحتْ لـ «داعش» الإفلات من العقاب على قتْلها العسكريين وفتْح ملف تَورُّطه بالصراع في سورية، فإن التوازنات الداخلية التي يشكّل «حزب الله» ضابط إيقاعها السياسي والأمني تؤشّر على احتمال طيّ هذا الملف وملابساتِه بدليل تغطية الرئيس الحريري المسار الذي سمح بانتقال إرهابيي «داعش» من المقلب اللبناني الى المقلب السوري بإعلانه انه ورئيس الجمهورية مَن سمحا لهؤلاء بعبور الحدود بعدما أبدوا
استعداداً لكشْف مصير العسكريين «ولكن نقلهم بالحافلات الى شرق سورية كان بقرار من (حزب الله) والسوريين».
ورأت أوساط واسعة الاطلاع عبر «الراي» أن البيان الأخير الصادر عن «حزب الله» يشكّل امتداداً للبيان الذي كان أصدره السيد نصر الله شخصياً في 30 أغسطس الماضي وتناول موقف العراقيين من الصفقة بين «داعش» و«حزب الله»، الأمر الذي يعكس حجم انزعاج الحزب من التصدّع الذي أصاب «محور المقاومة» بإشهارِ فئاتٍ عراقية وازنة رفْضها تغطية تلك الصفقة وتوجيه اتهاماتٍ قاسية إلى الحزب وأمينه العام.
وتبعاً لذلك، تشير هذه الأوساط الى ان التركيز القريب المدى لـ «حزب الله» ينصبّ على جلاء المناخ المستجدّ على مستوى الأزمة بينه وبين العراق، باعتبار أن الواقع اللبناني «ممْسوك» استراتيجياً بما يخدم الأجنْدة الاقليمية للحزب الذي يتحرّك على «رقعة الشطرنج» المحلية بكل مرونة ويحدّد الأولويات وحتى مسارات «معاركه» العسكرية، كما السياسية، وآخرها عنوان التطبيع مع النظام السوري الذي سيعود وبضغطٍ من الحزب وحلفائه الى الواجهة على «وهج» معركة الجرود وتداعياتها، لا سيما دعوة الرئيس عون لإجراء التحقيقات الضرورية لتحديد المسؤوليات بقضية خطْف العسكريين إبان أحداث عرسال 2014 ومآل مصيرهم، وهي الدعوة التي يريد البعض أن تشمل أيضاً رفْض «حزب الله» وأطراف آخرين حينها أيّ تفاوُض مع «داعش» لمبادلة العسكريين قبل ان تتمّ تصفيتهم (حصلت في 2015)، وصولاً للصفقة التي أبرمها الحزب مع «الدواعش» قتَلة الجنود.
وكان لافتاً أمس أن ارتدادات معركة الجرود لم تنتهِ فصولاً، إذ أعلن المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم، الذي كان مكلفاً من الدولة اللبنانية متابعة ملف العسكريين إبان المعركة (ومنذ حصول عملية الخطف)، أن دوره وهدفه كان استعادة جثامين العسكريين «وقد حققتُه بأقل خسائر ممكنة، إذ كنا أمام مأساة». وإذ كرر أن الجثامين تعود للعسكريين المخطوفين، أكد أن «الرئيس عون كان الموجّه الاساسي على مستوى استعادة الجثامين، والتنسيق كان قائماً بين الرئاسات الثلاث وكانت على علم بما يجري»، مبدياً استعداده للقيام بما هو مطلوب منه في التنسيق مع الجانب السوري، موضحاً أن «قرار التنسيق بين الحكومتين واستكمال العلاقات مع الجانب السوري يعود للحكومة اللبنانية وحدها».
وفي سياق غير بعيد، بدا واضحاً أن «نبْش» ملف أحداث عرسال يشي باستحضار «الصندوق الأسود» لتلك المرحلة الانقسامية، وسط خشية من أن يؤدي ذلك إلى توتّرات سياسية تلاقي المناخ الضاغط في اتجاه التطبيع مع النظام السوري، وبروز مطالبات كما من النائب نبيل دو فريج (كان وزيراً في حكومة الرئيس تمام سلام إبان خطف العسكريين) بـ «استعادة محاضر مجلس الوزراء المسجلة بالصوت وعرضها للرأي العام والشعب اللبناني، فيتحمّل بذلك كل طرف مسؤوليته، وتكشف حقيقة ما حصل العام 2014».
(الراي)