تتعدد «جبهات» الصراع في لبنان وعليه في ذروةِ حربِ النفوذ في المنطقة وساحاتها… فبيروت تئنّ على وقعِ سلسلةٍ من الجبهات المفتوحة ودفعةً واحدة. من معركةِ قانون الانتخاب كممرٍّ للإمساك بالسلطة وتوازناتها الى مكانة لبنان في القمة الأميركية – العربية – الإسلامية المرتقبة في الرياض، ومن ملابسات إعلان «حزب الله» إنسحابه من السلسلة الشرقية وتسليمها للجيش اللبناني الى التأويلات الدائمة في شأن مصير «حزب الله» في سورية، ومن العقوبات الأميركية المنتظَرة على الحزب وحلفائه الى السيناريوات الإفتراضية لحربٍ إسرائيلية عليه، ومن وهج التحولات – عسكرية على الحدود السورية – العراقية والسورية – الأردنية إلى الإرتداداتِ المحتمَلة على لبنان من جراء ما يشاع عن تسوياتٍ تُطبخ فوق صفيحٍ ساخن حول مستقبل سورية.
ويَظهر، من دون عناء، أن «حزب الله» يشكل «الخيْط الغليظ» الذي يربط كل تلك «الجبهات» التي تقضّ مضاجع بيروت، كونه الطرف الأقوى في الداخل والمُمْسِك بـ «قواعد اللعبة» كقوّةٍ «ما فوق الدولة»، وكـ «جيشٍ» عابِرٍ للحدود يضطلعُ بدورِ «رأسِ الحربة» في المشروع الإيراني الذي تَتكاتف قوى إقليمية ودولية في مواجهته المفتوحة على قوسٍ من الإحتمالات التي تشي بفصولٍ أكثر تصعيداً ودراماتيكية، وخصوصاً في ضوء الخيارات التي تلوّح بها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الآتي الى المنطقة بعدما سبقتْه الـ «توما هوك» و«المارينز» الى سورية.
على جبهة قانون الإنتخاب الذي تحوّلت معاركه «داحس وغبراء» سياسية بين المجموعات السياسية والطائفية، يتّجه «حزب الله» الى إنتزاع ما أراد عبر المواجهة المتدرّجة التي شنّها مع شريكه في «الثنائية الشيعية» رئيس البرلمان نبيه بري، إذ بدا أن خياره الإنتخابي القاطع باعتماد قانون إنتخابٍ قائم على النسبية الكاملة يشقّ طريقه على «أنقاضِ» الصيغ الأخرى التي كان تَقدّم بها حليفه المسيحي «التيار الوطني الحر» برئاسة وزير الخارجية جبران باسيل.
ففي الفرصة الأخيرة للتوافق، الممتدّة حتى نهاية ولاية البرلمان الحالي في 20 يونيو، بدأتْ تتلاشى المخاوف من سقوط السلطة التشريعية في الفراغ وإنكشاف البلاد على مأزقٍ سياسي – دستوري مأسوي، بعدما أقرّ الجميع بـ «النسبية الكاملة» كمخرجٍ يتيح التفاهم على قانونٍ انتخاب جديد، وهي الصيغة التي أرادها «حزب الله» لإنتخاباتٍ تتيح استمرار «الثنائية الشيعية» في القبْض على الحصة الشيعية والأخذ من حصص البيئات المسيحية والسنية والدرزية، وتسمح للحزب بأن يشكّل قوةَ استقطابٍ تمكّنه من بناء تحالُفٍ قادرٍ على الإمساك بخيوط اللعبة السياسية في البلاد.
وثمة مَن يعتقد في بيروت أن انصياع الجميع لمبدأ القبول بالنسبية الكاملة يرجّح إمكان التوصل الى اتفاق حول قانون الإنتخاب قبل نهاية ولاية البرلمان، وإلا الذهاب الى تَفاهُمٍ مبدئي يتيح التمديد للبرلمان الحالي بتأييد من الجميع لأشهر على ان يصار خلالها لإنضاج توافق حول التفاصيل الجوهرية في القانون والتي تُعرف بـ «الضوابط» كعدد الدوائر والصوت التفضيلي ومجلس الشيوخ وما شابه.
فرغم التشدد الذي أبداه فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على مدى الأشهر الماضية حيال الحاجة الى إقرار قانونٍ، اجتهد باسيل في وضع صيغٍ عدة له بما يضمن للثنائي المسيحي (التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية) الفوز بحصة الأسد من المقاعد المسيحية، نجح «حزب الله» في حشْر الجميع بمعادلة من طرفيْن: استعصاء شيعي في وجه أي خيارٍ خارج النسبية الكاملة من جهةٍ والتلويح بإسقاط النظام في حال سقوط البرلمان في الفراغ، كالاستقالة من الحكومة وتعطيل العهد من جهة ثانية، وهي المعادلة التي فَرضت على فريق الرئيس عون التراجع عن صيغة تلو الصيغة، كالمختلط والتأهيلي والمركّب في تسليمٍ بشروط الحزب الذي سبق ان استخدم أساليب «حربية» لانتزاع توازناتٍ يريدها في السلطة، كعمليةِ 7 مايو 2008 في بيروت وبعض الجبل والعراضة بـ «القمصان السود» في الـ 2011.
فـ «حزب الله» يريد سلطة في لبنان يَطْمَئنّ إليها لحماية ظهره وهو يخوض حروباً مترامية في الإقليم، ولم يكن في وارد التساهل حيال قانون الإنتخاب في اللحظة التي تتعاظم التحديات التي يواجهها، وليس أقلّها إحتمال حربٍ إسرائيلية يستبقها الحزب عبر التبرؤ من مسبّباتها من خلال تكتيكاتٍ يُتْقِنها أمينه العام السيد حسن نصرالله على غرار ما إنطوتْ عليه إطلالته الأخيرة التي تميّزت بأمريْن:
* محاولة إشاعة قدر من الإطمئنان الى أن لا حرب إسرائيلية متوقَّعة الآن. ورغم أن الحزب غير مُطْمَئن في ضوء تقويمه بأن الحرب المؤجَّلة صارت محتملة، فإنه أراد الايحاء وعلى طريقته بأنه لا يريد الحرب وهذه حقيقة تعكس الرغبة بتجنّبِ حربٍ تأخذ من إندفاعة الحزب في إتجاه حروبٍ أكثر استراتيجية بالنسبة إليه.
* الإعلان عن إنسحاب مقاتلي الحزب من السلسلة الشرقية ودعوة الجيش اللبناني لتسلُّمها عبر الإحتفاظ بانتشاره على المقلب السوري من الحدود، وهو موقفٌ أريد منه استباق أيّ حرب إسرائيلية بالقول إن لا مناطق إنتشار لـ «حزب الله» على الأراضي اللبنانية، فحتى الحدود الشرقية صارتْ بعهدة الجيش اللبناني.
وبهذا المعنى، قلّلتْ دوائر مراقبة من صدقية المقاربة التي تعاطت مع إنكفاء «حزب الله» عن الشطر اللبناني من السلسلة الشرقية على أنه أحد مظاهر الضعف أو مؤشر على تزايد إحتمالات إنسحاب الحزب من سورية وما شابه، وخصوصاً أن مجريات الحرب السورية تفرض عليه، كما على سواه، المزيد من الهروب الى الأمام رغم الأثمان المرهقة لتلك الحرب، وها هو يرفع الآن من مستوى مشاركته في مواجهة ستكون أكثر شراسة على جبهة دير الزور.
(الراي)