لكنّ السؤال الذي طرح في الزوايا الضيقة هو عن السبب الفعلي الذي دفع الرئيس سعد الحريري الى تقديم تصور حكومي يرتكز على الحصص لا على الاسماء، على رغم إدراكه سلفاً أنّ رئيس الجمهورية لن يوافق عليه، او هذا على الاقل ما أبلغه إيّاه رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل قبل ساعات قليلة. وكان الحريري قد أبلغ الى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أنه سيقدم تصوّره الحكومي «وليحصل ما يحصل، فأنا لن أقف على خاطر أحد بعد اليوم».
التفسيرات تراوحت بين من اعتبر انّ الحريري، الذي يدرك جيداً ان التشكيلة الحكومية هي أسيرة النزاع الاقليمي المتصاعد والذي لا أفق زمنياً له في المدى المنظور على الأقل، أراد ان يملأ الوقت ولو بحركة شكلية، وفي الوقت نفسه نزع ورقة اتهامه بالوقوف متفرّجاً ومن دون ان يتقدم بأيّ تصور حكومي بحسب ما اتهمته اوساط رئيس الجمهورية أخيراً.
امّا التفسير الثاني فذهب الى أبعد من ذلك وعلى اساس انّ الحريري يريد رفع منسوب المواجهة الداخلية وهو ما يعزّز مكاسبه مرتين، مرة مع السعودية ومرة ثانية داخلياً، وتحديداً على الساحة السنية حيث دفع هذا الوضع بالجميع الى الاصطفاف خلفه.
وفي الكواليس كلام عن انّ الحماوة الداخلية تحت عنوان «صلاحيات رئاسة الجمهورية» و»صلاحيات رئاسة الحكومة»، يريدها ايضاً الفريق المحيط برئيس الجمهوية كون ذلك سيسمح له باستعادة بعض المكاسب على الساحة المسيحية يستطيع الافادة منها لاحقاً رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل في معركته للوصول الى قصر بعبدا.
ووفق هذا التفسير فإنه لا بد من الاستعداد لمعركة سياسية ـ إعلامية عنوانها الصلاحيات، مع السعي الى تطويرها وأخذها في اتجاه منحى طائفي.
وخلال الاسابيع الماضية حصل خطأين شجّعا الحريري على المضي قدماً في معركته الجديدة:
ـ الاول، هو ما عرف بدراسة وزير العدل سليم جريصاتي، وهي كانت خطأ دستورياً وسياسياً على حد سواء، وهي دفعت بالقوى السنية الى الاصطفاف خلف الحريري مع دعم متواصل من رؤساء الحكومة السابقين.
ـ الثاني، هو اللقاء الذي رَتّب له نائب رئيس المجلس النيابي ايلي الفرزلي بين الرئيس نجيب ميقاتي والقائم بالاعمال السعودي في لبنان، وهذا اللقاء الذي بقي بعيداً عن التداول الاعلامي كان الهدف منه التلويح لميقاتي بإغراءات تكليفه في حال اعتذار الحريري، وفي الوقت نفسه بعث رسالة تحذير للحريري. لكنّ ميقاتي وفور وصوله الى اللقاء، بادر الفرزلي والسفير السعودي قائلاً: «كلّو ولا صلاحيات رئاسة الحكومة». وخلال اللقاء بدا ميقاتي متصلباً، ما أدى الى نتائج معاكسة للاجتماع.
أضف الى ذلك انزعاج «حزب الله» من الاخطاء الحاصلة، والنتائج التي تؤدي الى اعادة تعزيز دور الحريري على الساحة السنية بعد ان أفضت الانتخابات النيابية الى توجيه صفعة قوية له.
وفي الإطار عينه لا يوافق المراقبون اعتقاد البعض أنّ «حرب الصلاحيات» التي ستندلع ستعطي «التيار الوطني الحر» مكاسب كبيرة على الساحة المسيحية، أسوة بما هو حاصل مع الحريري لأسباب عدة أهمها:
ـ أولاً، لا مبالاة الشارع المسيحي والذي يرزح تحت أثقال عدة، أبرزها هاجس الانهيار المالي والمصاعب الاقتصادية والتي تفاقمت كثيراً خلال المراحل الاخيرة. وهو ما تصفه جهات ديبلوماسية اوروبية معنية بنوع من أنواع التعب، وربما الخيبة.
ـ ثانياً، فيما الحريري يستعيد الفريق المحافظ والحرس القديم من حوله والذي يملك إرثاً تاريخياً كبيراً على الساحة السنية، فإنّ أدوات المواجهة والوجوه التي تتولى ادارة المعركة عند الفريق المحسوب على رئيس الجمهورية تحمل إرثاً تاريخياً مناقضاً للتوجه المسيحي العام، ما يفقدها قدرة التأثير والاثارة في الشارع المسيحي.
ـ ثالثاً، ميشال عون رئيساً لـ»التيار الوطني الحر» شيء ورئيساً للجمهورية شيء آخر، بمعنى انه عندما كان رئيس تيار سياسي كان يستطيع خوض معركة حساسة بلا أفق وبلا حدود، ولكنه كرئيس للجمهورية مضطر الى الاخذ في الاعتبار علاقاته العربية والاوروبية وعدم الاضرار بها بمقدار كبير.
ـ رابعاً، «حزب الله» الحليف والسند القوي لـ«التيار الوطني الحر» قد لا يجد مصلحة في الذهاب الى مواجهة طابعها طائفي، بحيث يؤدي ذلك الى حرج كبير لدى حلفائه داخل الطائفة السنية.
ـ خامساً، «القوات اللبنانية» ومعظم القوى المسيحية الأخرى ستسعى الى عدم انزلاق الامور في اتجاه «حرب صلاحيات»، وبالتالي في اتجاه مواجهة طائفية. وأقصر الطرق الى ذلك فتح جبهة ثانية تركز على العقدة المسيحية وتقنياتها ما يؤدي الى نزع الطابع الطائفي للمعركة.
ـ سادساً، خلال المواجهة التي حصلت سابقاً بين رئيس مجلس النواب نبيه بري والوزير جبران باسيل، واستُعمِلت فيها المفردات التي تؤدي الى إثارة الحساسية الطائفية لم تعطِ الساحة المسيحية النتيجة المطلوبة على رغم انّ الظروف كانت اكثر ملائمة. وعلى رغم استمرار التجييش الانتخابي في الاتجاه نفسه، الّا انّ النتائج أظهرت ضعف التجاوب. امّا اليوم فالظروف تبدو اكثر صعوبة نتيجة انشغال الناس بالاوضاع الاقتصادية الصعبة وبنتائج المواجهة مع بري، والتي أدّت لاحقاً الى مصالحة معه وطَي الصفحة السابقة بكاملها، لا بل السماح بالتمديد له في رئاسة المجلس النيابي. فكيف بالحري هنا مع الاصرار على تسمية الحريري للمرة الثانية في عهد عون لتأليف الحكومة، خصوصاً بعد انتخابات نيابية خيضت بالتحالف مع تيار «المستقبل» وبعد علاقة قوية وتنسيق شبه كامل بين وزراء «التيار الوطني الحر» و«المستقبل» خلال فترة الحكومة المستقيلة.
ـ سابعاً، المراوحة في تأليف الحكومة تهدر وقتاً ثميناً من عهد رئيس الجمهورية المحدد زمنياً ودستورياً بـ6 سنوات، فيما رئيس الحكومة قادر على الاستمرار وترؤس الحكومات الآن وغداً وبعد غد.