دَخَلَ لبنان أمس، مرحلةً من «حبْسِ الأنفاسِ» يفترض أن تُفْضي في اليوميْن المقبليْن إلى «انقشاعِ الرؤية» حيال آفاقِ الواقع الداخلي الذي تَتَجاذبه «ثورةُ 17 أكتوبر» المستمرّة على تَوَهُّجِها، والأزمةُ الحكومية التي أكملتْ أسبوعها الثاني، وسط ارتسام أوسع مواكبةٍ دولية للوضع اللبناني بعد انكفاءٍ ساد منذ اندلاع الانتفاضة قبل 28 يوماً، الأمر الذي عَكَس أن البلاد باتت في «المنطقة الحمراء» في ظلّ تَشابُك المأزق السياسي مع خطر انهيارٍ مالي – اقتصادي بدأت «طلائعُه».
وبدت بيروت في الساعات الماضية أسيرة سيناريويْن يتدافعان في ممرّ ضيق «مزنّر بالأشواك»، الأول مفاده بأن رئيس الوزراء المستقيل سعد الحريري بات أقرب ما يكون إلى حسْم خياره بالعزوف عن تأليف الحكومة الجديدة لإصراره على تشكيلة من اختصاصيين مستقلّين بعيداً عن المحاصصة السياسية والحزبية بما يُلاقي مطلباً رئيسياً للشارع ويسهّل السير بالإصلاحات «المؤهِلة» للفوز بمخصصات مؤتمر «سيدر».
والسيناريو الثاني أن الباب لم يُقفل بعد أمام إمكان بلوغ تفاهُم «ربع الساعة الأخير» على صيغة توفّق بين حسابات القوى السياسية وبين مراعاة مطلب الانتفاضة وتُجَنِّب لبنان خياراتٍ تبدأ بتشكيل حكومةٍ لا تحظى بثقة المتظاهرين ولا الخارج ولا تنتهي بإبقاء الوضع الداخلي مُعلَّقاً على فراغٍ مديد.
ورسمت أوساطٌ سياسية شكوكاً كبيرة بإزاء فرص نجاح اتصالات «الفرصة الأخيرة» بالوصول إلى تشكيلة برئاسة الحريري، باعتبار أن ذلك سيعني واحداً من أمريْن، إما أن الأخير سيتراجع عن شروطه وهذا ما لا رغبة حتى الآن ولا قدرة للحريري على القيام به وخصوصاً أنه سيكون في أي حكومة تكنو – سياسية «رهينةَ» الآخَرين وتحديداً تحالف فريق رئيس الجمهورية ميشال عون و«حزب الله» بعدما اختار حليفاه، «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية»، دعم حكومة التكنوقراط المستقلة. وإما أن «حزب الله» ومعه فريق عون سيوافقان على تشكيلةٍ خارج الـ تكنو – سياسية أي من مستقلّين لا صبغة سياسية أو حزبية لهم، وهو ما يصعب تصوُّره بعدما اعتبر هذا التحالف أن مثل هذه الشروط تشكل قفزاً فوق نتائج الانتخابات النيابية (فازا فيها بالأكثرية مع حلفائهما) وتُلاقي ضغوطاً وحتى «أجندات» خارجية تريد الاقتصاص من الحزب وحلفائه.
وجاء التخاطب بـ«لبن العصفور» بين رئيس البرلمان نبيه بري (شريك «حزب الله» في الثنائية الشيعية) والحريري أمس، ليعطي إشارةً عززتْ موقف غير المتفائلين بإمكان التوصل لتفاهم مع زعيم «تيار المستقبل» على شراكة في الحكومة الجديدة. فبعدما نقلت صحيفة «النهار» عن بري أنه «قدّم لبن العصفور الى الرئيس الحريري» وأنه «سيكون على عداء معه الى الأبد إذا رفض تشكيل الحكومة»، نَقَل أحد زوار بيت الوسط عن الحريري «الرئيس بري أخ كبير، وقلبو الكبير ما بيتحمّل يكون على عداء معي الى الأبد. وأنا بشكرو فعلاً على لبن العصفور مع العلم انني متوقّف عن تناول الألبان والأجبان، وحالة البلد بدها ريجيم سياسي»، مضيفاً: «صداقة الرئيس بري ومحبتو واحترامو بتتقدم عندي على أي اعتبارات وما في شي بالدني بيحطنا بخانة العداوة».
وعلى وقع هذا «السباق المحموم» وتكثُّف الاتصالات، وكان بينها لقاءٌ بين الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، استبق عون إطلالته التلفزيونية ليل أمس التي تطرق فيها إلى مجمل الوضع، بحركة لقاءات غير عادية شملتْ سفراء دول مجموعة الدعم الدولية ومعهم المنسق الخاص للامم المتحدة في لبنان يان كوبيش، ثم السفراء العرب المقيمين في بيروت وبينهم سفير الكويت عبدالعال القناعي، حيث أكد أمامهم أن الحكومة ستولد قريباً جداً، شارحاً الملابسات التي رافقت استقالة الحكومة ومتناولاً المطالب التي رفعها الحراك الشعبي وموقفه منها، طالباً مساعدة الدول العربية للنهوض بالاقتصاد اللبناني مجدداً.
وفي الوقت الذي بدأ الموفد الفرنسي كريستوف فارنو زيارته أمس لبيروت بلقاء رؤساء الأحزاب على أن يجتمع اليوم بعون وبري والحريري وقائد الجيش وحاكم مصرف لبنان وسط عدم تلبية الحِراك الشعبي مطلبه للاجتماع بممثلين عنه (صدرت دعوات لتظاهرة أمام السفارة الفرنسية رفضاً للتدخل الاجنبي في الشؤون اللبنانية)، ربطتْ بعض الأوساط بين مآل محادثات فارنو وبين «الخطوة التالية» في الملف الحكومي وتحديداً إمكان الدعوة للاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيسٍ للحكومة، إذ يفترض أن تكون مباحثاته كشفت ما إذا كانت باريس تجمل مبادرة أو ضمانات كفيلة بتغليب صيغة حكومية على أخرى.
ورغم تعاطي البعض مع حرص فرنسا على إيفاد فارنو على أنه «اعترافٌ» بالانتفاضة، فإن ملامح تجاذب دولي ارتسمت حول الأزمة اللبنانية بما يطرح علامات استفهام إزاء آفاقها. فبعدما كان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عبّر عن دعم الثورة في لبنان كما العراق بوجه النفوذ الإيراني، برز أمس إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال منتدى السلام في باريس دعم بلاده محاولات الحريري تشكيل الحكومة، متداركاً «بحسب ما أفهم، فإن الفكرة تتمحور حول تشكيل حكومة تكنوقراط، وأعتقد أن هذا أمر غير واقعي في لبنان».
في المقابل، أعطى المنسق الخاص للأمم المتحدة ما يشبه «بروفايل» الحكومة التي يتطلع إليها المجتمع الدولي، إذ دعا في بيان له (حول نتائج لقائه مع سفراء مجموعة الدعم الدولي، الرئيس عون) «القيادة اللبنانية إلى تكليف رئيس مجلس الوزراء بصورة عاجلة والإسراع الى أقصى حد بتشكيل حكومة من شخصيات معروفة بكفاءتها ونزاهتها وتحظى بثقة الناس. وتلك الحكومة، التي ستتشكل تماشياً مع تطلعات الشعب وبدعمٍ من أوسع مجموعة من القوى السياسية من خلال التصويت على الثقة في البرلمان ستكون ايضاً بوضعٍ أفضل لطلب الدعم من شركاء لبنان الدوليين»، مطالباً بحماية المدنيين الذين يتظاهرون سلمياً.
وفي غمرة هذه الحماوة السياسية مضتْ الانتفاضة في يومها الـ27 بقوةٍ في الشارع وسط إضرابٍ عام وسلسلة اعتصامات في الساحات في مختلف المناطق وأمام «أهداف منتقاة» بينها قصر العدل في بيروت، مع قطْع بعض الطرق الدولية، فيما بقي القطاع المصرفي متوقفاً عن العمل بفعل الإضراب الذي أعلنتْه نقابة موظفي المصارف وسيستمرّ إلى حين توفير آلية لتفادي أي صِدامات في البنوك بين المستخدمين والمودعين (على غرار ما حصل يوم الجمعة الماضي) وإعادة النظر في التدابير الاستثنائية التي اتخذتها أخيراً إدارات المصارف وقيّدت بموجبها عمليات سحب الدولار خصوصاً كما تحويله إلى الخارج وغيرها من إجراءاتٍ أثارت هلع المودعين.
الراي