فوجئ عدد من السفراء العرب والأجانب المعتمدين لدى لبنان بحملات التخوين والشتائم التي استهدفت رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي»، وليد جنبلاط، على خلفية تأكيده أن مزارع شبعا سورية، وأن ملكية اللبنانيين للأراضي فيها شيء، والسيادة السورية عليها شيء آخر، وسألوا عن الأسباب الكامنة وراء عدم مقارعته بالوثائق والخرائط من قبل من شاركوا في هذه الحملات المنظّمة ضده لتبيان أن ما قاله ليس صحيحاً وأن موقفهم على صواب.
اللافت في الحملات التي استهدفت جنبلاط أن وراءها قوى وشخصيات تنتمي إلى «محور الممانعة» في لبنان، الحليف للنظام في سوريا ولإيران، وأنها جاءت بأمر عمليات إقليمي، لم يكن «حزب الله» في منأى عنه، وإن كان تجنَّب الانخراط مباشرة في هذه الحملات.
لكن الحملات التي نُظّمت ضد جنبلاط تزامنت مع الهفوة السياسية التي سقط فيها وزير الدفاع، إلياس بو صعب، بقوله في جولته الجنوبية برفقة قائد الجيش العماد جوزف عون، إن الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية للبنان يبدأ بعد زوال الأخطار الإسرائيلية على لبنان، واضطر لاحقاً إلى تصويب موقفه بعد سيل من الردود الاعتراضية على ما صدر عنه، مع أن «الوكالة الوطنية» التابعة رسمياً لوزارة الإعلام كانت أول من نشر كلامه هذا. ودعت الأمم المتحدة بلسان أمينها العام، رئيس الجمهورية ميشال عون، إلى بدء حوار جدي حول الاستراتيجية الدفاعية.
وفي سياق الحملات التي صبّت غضبها على جنبلاط، فإن بعض من نظّمها ادّعى أن إسرائيل رفضت من خلال الأمم المتحدة تزويد لبنان بخريطة تثبت لبنانية مزارع شبعا، في مقابل اتهام رئيس «التقدّمي» مجموعة من ضباط لبنانيين وسوريين تولوا تحريف الخرائط للادعاء بأن المزارع لبنانية.
إلاّ أن هذه الحملات لم يكن يدرك أصحابها أن السلطات السورية استحدثت مخفراً في المزارع عام 1955 لمكافحة التهريب الذي ينطلق منها، وأن استحداثه جاء إبان تولي اللواء الراحل شوكت شقير (والد النائب والوزير السابق أيمن شقير) رئاسة هيئة الأركان العامة في الجيش السوري.
وبقي هذا المخفر السوري، الذي كان بمثابة نقطة مراقبة لمثلث التهريب في المزارع إلى لبنان وسوريا وإسرائيل، قائماً إلى أن احتلت الأخيرة هذه المنطقة في حرب يونيو (حزيران) 1967، وأُلحقت بالقرارين 242 و338 الصادرين عن مجلس الأمن الدولي، رغم أن لبنانيين يملكون مساحات واسعة من أراضيها.
ولم يتحرك لبنان الرسمي لدى الأمم المتحدة ليطلب منها أن تعيد النظر بإلحاق المزارع بهذين القرارين، وانسحب الموقف اللبناني لاحقاً على حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي خاضتها مصر وسوريا ضد إسرائيل لتحرير الأراضي التي احتلتها في 1967.
حتى أن لبنان الرسمي لم يحرّك ساكناً بعد اجتياح إسرائيل للجنوب في عام 1978، ليطلب مع صدور القرار 425 عن مجلس الأمن الدولي تثبيت لبنانية المزارع، وكذلك الأمر في العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان في يونيو 1982.
ولم تتبدّل سياسة اللامبالاة اللبنانية حيال المزارع عندما انسحبت إسرائيل من الجنوب في مايو (أيار) 2000 ما أدى إلى تحريره من الاحتلال، مع أن الانسحاب تم في عهد رئيس الجمهورية إميل لحود، وأثناء تولي الرئيس سليم الحص رئاسة الحكومة.
وعمّت في حينها الاحتفالات بتحرير الجنوب، وتداعت الحكومة والبرلمان إلى عقد جلسة في بنت جبيل لم يأت من تحدّث فيها على ذكر استعادة المزارع التي استحضرت إلى الواجهة بخرائط جرى تحريفها لإلحاق المزارع بها، فيما غابت المزارع عن الخريطة اللبنانية الرسمية المعتمدة في الدوائر الحكومية وفي مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش، وهذا التحريف أُقحم بالخريطة بطلب سوري وبغطاء لبناني رسمي.
وبعيداً عن الاحتفالية السورية بتحرير الجنوب، لا بد من الإشارة إلى الموقف الذي صدر عن وزير الخارجية السورية فاروق الشرع، قبل أسابيع قليلة من انسحاب إسرائيل، وفيه أن الحديث عن الانسحاب هو مؤامرة على لبنان وسوريا، وكان سبقه إلى موقفه هذا عدد من الشخصيات التي تدور في فلك السياسة السورية حيال لبنان.
لذلك مع استحضار المزارع، بالتزامن مع رسم خط الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، الذي عُرف بـ«الخط الأزرق»، سارعت الشخصيات والأحزاب اللبنانية المرتبطة بالنظام الأمني اللبناني – السوري، على حد قول الذين واكبوا هذه المرحلة لـ«الشرق الأوسط»، إلى استبدال خطبها الاحتفالية بتحرير الجنوب بخطب ترضي النظام في سوريا.
ويؤكد أكثر من وزير ونائب ممن واكبوا هذه المرحلة أن الأمم المتحدة دخلت على الخط، ونصحت لبنان من خلال موفدها إلى بيروت تيري رود لارسن، بضرورة التحرّك لدى القيادة السورية للحصول منها على الخرائط والوثائق التي تثبت لبنانية المزارع.
لكن من طرح الأمر على القيادة السورية عاد بخفّي حنين من دون الحصول على الوثائق التي يتقدم بها لبنان إلى الأمم المتحدة، للتأكيد على لبنانية المزارع، شرط أن تكون مقرونة بتوقيع الحكومتين اللبنانية والسورية، والأخيرة أخذت تتصرف على أنها فقدت ورقة أساسية من خلال تحرير الجنوب تستقوي بها في التفاوض مع إسرائيل، خصوصاً أن دمشق تترك للبنان مقاومة الاحتلال، وتنسب إلى نفسها حق التفاوض بالنيابة عنه.
إلا أن محاولة انتزاع ما يُثبت لبنانية المزارع من دمشق لم تتوقف، مع أن وليد المعلم الذي خلف الشرع على رأس الخارجية السورية أثناء توريث الرئاسة إلى بشار الأسد بعد وفاة والده حافظ الأسد سعى للالتفاف على طلب لبنان للوثائق بقوله إن المزارع لبنانية، وهذا لم يُصرف في المحافل الدولية، وإن كان بعض حلفاء سوريا في لبنان تعاملوا معه على أنه جرعة سياسية يستخدمونها ضد المعارضة التي انتعشت سياسياً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي أعقبه انسحاب الجيش السوري من لبنان.
وفي هذا المجال علمت «الشرق الأوسط» أن ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، حضر بامتياز على طاولة مؤتمر الحوار الوطني الأول، الذي رعاه الرئيس بري في البرلمان في ربيع 2006، وطلب حينها الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، الاستعاضة عن كلمة الترسيم التي تُستخدم في العادة بين دولتين متخاصمتين بتحديد الحدود.
إلاّ أن دمشق لم تأخذ لا بطلب ترسيم الحدود أو تحديدها، وأبلغت من زارها للبحث معها في هذا الأمر بأن الترسيم يبدأ فور انسحاب إسرائيل من المزارع. ولا أيضاً بطلب جمع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وضبطه في داخلها، رغم أنها أوفدت لهذه الغاية حليفها أمين عام «الجبهة الشعبية – القيادة العامة» أحمد جبريل.
وباختصار، فإن دمشق سعت إلى تجميع أوراقها التي فقدت بعضها باغتيال رفيق الحريري، ولهذا أبقت على المزارع جبهة مفتوحة سمحت من خلالها لـ«حزب الله» بالإبقاء على سلاحه الذي ازدادت فاعليته في حرب يوليو (تموز) 2006.
لكن هذا كله لم يقفل الباب أمام الإصرار على أن تتجاوب دمشق مع طلب لبنان تزويده بالخرائط والوثائق، لتثبيت لبنانية المزارع، وهذا ما حصل عندما زار رئيس الوزراء سعد الحريري، دمشق، في أول حكومة ترأسها والتقى الأسد.
وعلمت «الشرق الأوسط» أن الأمور العالقة بين البلدين أُثيرت في هذا اللقاء، ومنها إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، وتثبيت لبنانية المزارع، خصوصاً أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، أكد للذين راجعوه من القيادات اللبنانية أن الخرائط الرسمية للبنان لا تلحظ أي وجود للمزارع، وبالتالي لا حل إلا بمراجعة سوريا للحصول منها على رسالة خطية تؤكد لبنانية المزارع، بما يسمح بشمولها بمهمة «يونيفيل» استناداً للقرار 425.
وحسب هذه المعلومات، فإن الحريري ترأس مع نظيره السوري محمد ناجي العطري، الاجتماع المشترك للهيئة اللبنانية – السورية، الذي أدى إلى تعديل 24 اتفاقية من مجموع الاتفاقيات المعقودة بين البلدين، وعددها 42، إضافة إلى البحث في تشكيل لجنة فنية مشتركة توكل إليها مهمة ترسيم الحدود.
لكن المفاجأة كانت أن لبنان بادر إلى تشكيل لجنة أمنية سياسية بإشراف الوزير جان أوغسبيان، المكلف متابعة البحث في الملفات بين البلدين، وضمت اللجنة ممثلين عن وزارات الدفاع والخارجية والداخلية وضباطاً من الأجهزة الأمنية.
وأبلغ أوغسبيان الجانب السوري أن لبنان شكل هذه اللجنة، وزوّدت بالوثائق والخرائط، ومنها ما يتعلق بالخرائط الجوية، وفيها مسح شامل للحدود بين البلدين، وكان جواب دمشق أن اللجنة التي ستكلّف بترسيم الحدود منصرفة الآن إلى ترسيم الحدود السورية مع الأردن، رغم أن لبنان في تصوّره لعملية الترسيم أبقى على المزارع نقطة ربط نزاع.
وهكذا تعثّرت مهمة حكومة الحريري في ترسيم الحدود من جهة، وفي تثبيت لبنانية المزارع، بعد أن أُطيح بحكومته الأولى بذريعة عدم إحالة شهود الزور في جريمة اغتيال الحريري إلى المجلس العدلي، مع أن هذه الذريعة سُحبت من التداول فور أن اختير الرئيس نجيب ميقاتي، خلفاً له على رأس حكومة جديدة.
وعليه، فإن جنبلاط من وجهة نظر القانون الدولي والهيئات التابعة للأمم المتحدة، التي تنظر في النزاعات بين الدول، على حق في موقفه من المزارع، وأن الحملة عليه جاءت لأغراض إقليمية للإبقاء على جبهة الجنوب مفتوحة، وإلا لماذا تعترف دمشق بلبنانيتها في العلن، وترفض إدراج اعترافها في وثيقة موقّعة تُرفع إلى الأمم المتحدة؟ا
(لشرق الاوسط)