يتناقض منطق الثنائيّات والثلاثيّات والرباعيّات مع فلسفة العيش المشترك التي تشكّل ميزة لبنان وضمان استقلاله وسيادته وحريته، ويصعب الكلام عن لبنان المتوازن والمستقر بعيداً من فكرة العيش معاً، ولا مصلحة إطلاقاً بالتخلي عن السعي لإنجاح التجربة اللبنانية بتنوّعها وتعددها.
وما يجدر تأكيده هو انّ الثنائية المسيحية – الدرزية الطاغية في زمن القائمقامية والمتصرفية لم تكن توجّهاً ولا خياراً، إنما فرضتها الظروف الموضوعية للديموغرافية المكوّنة لجبل لبنان، كما انّ الثنائية المسيحية – السنية الطاغية لجمهورية الـ٤٣ لم تكن توجهاً ولا خياراً، بل فرضتها أيضاً عوامل عدة، وفي طليعتها انّ التسوية حصلت بين المكوّن المسيحي الذي سعى جاهداً لانتزاع استقلالية لبنان، وبين المكوّن السنّي الذي كان يُزاوج بين وراثة انهيار حكم السلطنة العثمانية وبين المطالبة بالوحدة العربية، وذلك في ظل تراجع الدور الدرزي ومحدودية الدور الشيعي.
وقد استمر هذا الواقع إلى حين اندلاع الحرب اللبنانية وفشل الثنائية المسيحية – السنية بالحفاظ على الجوهرة اللبنانية، فيما انتهت الحرب بوضع النظام السوري يده على لبنان متخلّصاً من النفوذ المسيحي الذي شكّل تاريخياً السد المنيع أمام وضع اليد السورية. ومع انكفاء الدور المسيحي نشأت ثنائية سنية – شيعية تحت سقف الإدارة السورية التي منحت المقاومة والأمن للشيعية السياسية، والاقتصاد للسنية السياسية، فيما حافظت الطائفة الدرزية على امتيازات سياسية مع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط.
وعلى رغم جريمة العصر باغتيال الشهيد رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، حاولت الثنائية السنية ـ الشيعية أن تواصل إدارتها الحياة السياسية من دون ضابط الإيقاع السوري، ولكنها سرعان ما اصطدمت بمعطيات الواقع الجديد الذي يحول دون استمرار هذه الثنائية. وفي هذا الوقت كان «حزب الله» يبحث عن شريك مسيحي، فرفع السيّد حسن نصرالله شعار ١٠٤٥٢ كلم2 في انتخابات العام ٢٠٠٥، ولم يمانع في انضمام مرشّح «القوات اللبنانية» الدكتور إدمون نعيم إلى اللائحة، ولكن ما جَمعته تلك المحطة الانتخابية التي جاءت بين مرحلتين وزمنين ورهانين: رهان ١٤ آذار على لَبننة «حزب الله»، ورهان الحزب على إعادة القديم إلى قِدَمه، عادت وفَرقّته ثوابت كل فريق واقتناعاته، إلّا انّ «الحزب» واصَل سعيه للتحالف مع شريك مسيحي، وما لم يجده مع «القوات» لاعتبارات مبدئية وَجَده مع «التيار الوطني الحر» الذي أراد أن يخلط الأوراق بتحالفه مع الحزب، بعدما أيقنَ انّ مستقبله الرئاسي غير مضمون مع ١٤ آذار.
ولا ينطلق «حزب الله» في بحثه عن شريك مسيحي من حسابات تكتية، بل من حسابات استراتيجية ربطاً بالنزاع السعودي-الإيراني واستطراداً السني-الشيعي، وتحوّل الرياض قائدة العالم السني ونفوذها الكبير في لبنان، وفي ظل استبعاده أن تستقر العلاقة مع المكون السني اللبناني قبل استقرارها بين طهران والرياض، كما إدراكه انّ اختراقه للساحة السنية، ومهما بَلغ، سيبقى محدوداً وقابلاً للانتقاص لا الزيادة.
وتبعاً لقراءة سياسية لبعض الأوساط غير المسيحية توقعت الانتقال قريباً إلى المرحلة الرابعة التي سَترِث المراحل الثلاث التي سبقتها، وهي الثنائية السنية – الشيعية التي امتدت منذ العام ١٩٩٠ حتى العام ٢٠٠٦، وثنائية ٨ و ١٤ آذار، والمرحلة الحالية التي هي مزيج بين انفراط الانقسام العمودي وعدم قيام تحالف واضح المعالم، وصولاً إلى المرحلة الرابعة وهي الثنائية المسيحية – الشيعية.
وتعتبر هذه الأوساط انّ «حزب الله» كان يطمح الى أن يشكّل وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية معبراً لهذه الثنائية، ولكنه تفاجَأ بعمق التحالف بين العونية السياسية والحريرية السياسية، فيما هو يريده تحالفاً شكلياً يستطيع عون أن يؤمّن من خلاله الدعم السعودي والأميركي، وليس تحالفاً وليد اقتناع سياسي كما هي الحال اليوم بالنسبة إلى الحزب، الأمر الذي يخَلخِل توجهه العميق الساعي إلى استبدال الثنائية الشيعية – السنية بثنائية شيعية – مسيحية.
وبمعزل عن كل ما يمكن ان يُقال عن عهد عون، فإنه نجح في إرساء التوازن الوطني المتمثّل بالعيش المشترك بين اللبنانيين، خصوصاً في ظل إقرار قانون انتخاب تمثيلي بعد سلسلة من القوانين المُجحفة، وإجراء الانتخابات التي أعادت تصحيح الخلل الميثاقي.
وتلخّص الأوساط نفسها نظرتها إلى الساحة اللبنانية على الشكل الآتي:
ـ أولاً، على المستوى السني، وعلى رغم الانتصار الذي حققه الرئيس سعد الحريري في الانتخابات النيابية، فإنّ الطائفة السنية تشهد للمرة الأولى تمثيلاً متنوعاً، وتظهر في ممارستها السياسية وكأنها مثقلة بأعباء كبرى وأوزان ثقيلة، وقد زادتها انقساماً ولادة كتلة تحاول الإيحاء أنّ زمن الأحادية ولّى إلى غير رجعة، فضلاً عن وجود نية لإنهاكها بالنزاعات الداخلية.
ـ ثانياً، على المستوى الدرزي وعلى رغم الانتصار الانتخابي الكبير لـ»الحزب التقدمي الإشتراكي»، كانت هناك نية إبّان العقدة الدرزية في تأليف الحكومة لكسر الأحادية الدرزية، وقد زاد هذا التوجه مع أحداث الجاهلية، التي على رغم انتهائها، إلّا انّ جمرها سيبقى تحت الرماد.
وفي ملاحظة سريعة، يمكن الخروج بخلاصة مفادها انّ السخونة السياسية تشكل مشتركاً بين البيئتين السنيّة والدرزيّة، فيما البيئة المسيحية تشهد للمرة الأولى ومنذ زمن بعيد تبريداً استثنائياً نتيجة المصالحات السياسية في الدرجة الأولى، وغياب العوامل الانقسامية بعد انتفاء العقدة المسيحية في الدرجة الثانية. ولكن حتى لو وجِدَت المواجهات فهي باتت ضمن أطر سياسية معينة. وبخصوص البيئة الشيعية، خرجت الثنائية الحزبية من الانتخابات بقوة أكبر، بحيث ضمنت الفوز في المقاعد النيابية المخصصة للطائفة الشيعية، ومن غير المتوقع ان تشهد هذه البيئة سخونة سياسية داخلية في ظل التفاوت الكبير في الأحجام والأوزان بين الثنائية الحزبية وخصومها.
وعلى الرغم من عدم صحة الكلام عن وحدة صف داخل البيئة المسيحية، إلّا انه يمكن الكلام عن صحوة مسيحية أو «ميني» صحوة مقابل شيعية قلقة من التطورات الخارجية والحصار المفروض عليها وعلى طهران، وسنية سياسية محبطة ومنقسمة ومربكة وتتلقى الضربات من كل حدب وصوب، ودرزيّة سياسية شهدت سجالات في الأشهر التي سبقت الانتخابات وتَلتها غير مسبوقة في تاريخ الطائفة، معطوفة على التهيئة لوراثة سياسية وتصفية حسابات خارجية مع ركنها الأساسي.
وفي خضم كل هذا المشهد السياسي، تخلص هذه الأوساط إلى طرح 4 أفكار أساسية:
ـ الفكرة الأولى، لم يَستقم لبنان العيش المشترك فعلياً منذ قيام الجمهورية الأولى التي قامت على ثنائية مسيحية – سنية، فيما مرحلة «اتفاق الطائف» قامت على ثنائية شيعية – سنية، وعلى رغم من انّ مصير الثنائية الأولى والثانية لا يشكل عاملاً مشجّعاً، إلّا انه لا يمكن إنكار أو تجاهل أنهما شكّلا مرحلة من الاستقرار السياسي.
ـ الفكرة الثانية، إذا كانت الأحادية في لبنان مستحيلة، فإنّ الشراكة بين كل المكونات ما زالت صعبة التحقق، (لأنّ إرادة عدم تطبيق «اتفاق الطائف» بصيغته اللبنانية ما زالت قائمة). وبالتالي، من أجل إدخال لبنان في مرحلة من الاستقرار، لا بد من إعادة الاعتبار الى منطق الثنائيات من دون إلغاء المكونات الأخرى أو تقليص دورها إطلاقاً، ولكن الواقع السياسي يفرض نفسه في هذا الاتجاه.
ـ الفكرة الثالثة، يدرك «حزب الله» انّ دوره الإقليمي شارفَ على الانتهاء وانه يعتزم العودة إلى لبنان، وهذه العودة تستدعي مزيداً من الانخراط في الحياة السياسية، والتي بدأها الحزب مع انتخاب الرئيس ميشال عون ومن ثم مع الانتخابات النيابية بالتمَوضع لبنانياً ورفع منسوب اهتمامه بكل الملفات اللبنانية التي كان يُهملها سابقاً.
ـ الفكرة الرابعة، لأنّ الثنائية السنية – المسيحية غير ممكنة في ظل دور «حزب الله»، ولأنّ الثنائية السنية – الشيعية لم تعد ممكنة لاعتبارات سياسية خارجية وداخلية، فإنّ الثنائية الوحيدة المتاحة اليوم هي الثنائية الشيعية – المسيحية التي تُفسح في المجال أمام «لَبننة الحزب» في دوره، وتفسح في المجال أمام ترسيخ الاستقرار وتثبيته.
وإذا كان من يعوِّل عليه «حزب الله» لتطبيق هذه الثنائية لم يطبّقها، فهل يمكن تطبيقها مع طرف آخر يتناقض مع الحزب في الأمور الاستراتيجية؟ وهل قدر لبنان الخروج من ثنائية من أجل الدخول في أخرى بدلاً من الدفع في اتجاه إنجاح فلسفة العيش معاً؟