غسان شربل :
هذا زمان المغردين. من دونالد ترمب إلى مقتدى الصدر مروراً بسعد الحريري وأنور قرقاش. لم يعد السياسي يحتاج إلى حديث صحافي طويل أو إطلالة تلفزيونية مديدة. تكفي بضع كلمات جاذبة. وإذا كانت لاسعة وفي توقيت مناسب تسري كالنار في الهشيم. ليس بسيطاً أن يختار زعيم الاقتصاد الأول في العالم والقائد الأعلى لأقوى جيش في التاريخ مخاطبة العالم عبر «تويتر». حفنة كلمات منه يمكن أن تقلق الخصوم والحلفاء وأن تهز الأسواق والبورصات. فرض ترمب أسلوب التخاطب في القرية الكونية والتحق به كثيرون. و«تويتر» فرصة تعبير وترويج وتشويه. إنه مكان نموذجي لنشر الغسيل خصوصاً حين لا يكون ناصعاً.
حين جئنا إلى هذه المهنة الشائكة كان الرقيب يعتقل الصحيفة ويحرمها تأشيرة المرور إلى القارئ. وكان يمنعها من دخول البلاد بسبب عبارة أو مقال أو جملة تبطن التباساً. غيّرت الثورة التكنولوجية قواعد اللعبة، ودفعت الحدود والمقص والقلم الأحمر إلى تقاعد إلزامي. حولت كل مواطن صحافياً واتسعت دهاليز وسائل التواصل الاجتماعي للجميل وما لا يشبهه وللصحيح ونقيضه. عصفت الثورة بالصفحات والشاشات. بوزراء الإعلام ورؤساء التحرير.
أدرك وليد جنبلاط باكراً أهمية هذا السلاح الوافد. ميله التقليدي إلى الإيجاز وإطلاق السهام جعل تغريداته محط اهتمام مريديه وكارهيه. عرف أن التغريدة يمكن أن تكون أقسى من قذيفة وأوجع من خنجر. والبيك لاعب بارع أصلاً. يجيد الكمون ويجيد خطف الأضواء. يختار ساعة الصمت ويختار ساعة البوح.
عبثاً يحاول وليد جنبلاط إقناع زائره أنه تقاعد أو يكاد. خروجه من البرلمان لمصلحة نجله تيمور لا يعني أبداً خروجه من الحلبة. لا يستطيع العيش خارجها ولو تمنى. علاقته بالسياسة حالة إدمان. أستاذ في القلق وقراءة اتجاهات الرياح. مفرط في المرونة ثم مفرط في التشدد. وأحياناً تدفعه المرارات إلى تخطي الجرأة في اتجاه التهور والمعارك الخاسرة. خبير في الاشتباكات وفي الهدنات. ملاكم لا يرتاح إلا وسط تبادل اللكمات. ومن عادته أن يخوضها في نادي الكبار. وإذا تحرش به ملاكم مستجد يسارع إلى تصويب اللعبة ويصوّب على اللاعب الكبير.
الحق على «تويتر». قاتله الله. كان جنبلاط يغرد عن شظف أوضاع اللاجئين السوريين خصوصاً بعد تغريدات جبران باسيل وخروقاته. ختم جنبلاط تغريدته بعبارة تقول: «مصيبتنا في عهد فاشل من أول لحظة». اشتعلت المواقع والمنصات. لم يتسامح العونيون حيال العبارة التي استهدفت السيد الرئيس الجالس في القصر. انهالوا على الزعيم الجنبلاطي بأقسى الاتهامات وأقذع العبارات. وهذا من حقهم في عالم «تويتر». لكنهم ذهبوا أبعد مما قد يحتمل العهد نفسه حين نبش بعضهم قبور «حرب الجبل» والتواريخ القديمة. تجاهلوا أن على المحارب أن يحتفظ بأوجع أسلحته للمعارك الأقسى وهي مقبلة بالتأكيد مهما تأخرت.
لا يستطيع وليد جنبلاط إنكار أن ميشال عون هو الرئيس الشرعي للبلاد، وأنه الممثل على الأقل لنصف المسيحيين أو ما يزيد قليلاً بموجب الانتخابات النيابية الأخيرة. ولا يستطيع عون في المقابل إنكار أن جنبلاط هو الزعيم الممثل للغالبية الساحقة من الدروز. ولأن البلد خيمة مكونات لا تتيح الشطب والضربات القاضية يتحتم على الرجلين التعايش ولو كان على قاعدة تجرع السم ومتابعة الرقص.
والحقيقة هي أن الحساب بين الرجلين قديم. تواجها فوق تلال سوق الغرب في الثمانينات وسال دم كثير. لقد أمضى جنبلاط معظم حياته السياسية يواجه من تقاتلوا على إرث بشير الجميل في طائفته ومنطقته والجمهورية؛ وهم أمين الجميل وسمير جعجع وإيلي حبيقة وميشال عون. وهو يعتبر أنه إذا كان بشير دخل القصر محمولاً على المناخات التي ولدها الاجتياح الإسرائيلي، فإن ميشال عون دخله محمولاً على المناخات التي ولدتها عاصفة الممانعة. ولم يستسغ جنبلاط بالتأكيد موقف عون الملتبس في أعقاب الاغتيالات التي عصفت بلبنان في العقد الماضي ولا رغبته في التلاعب بموازين الصلاحيات التي أرساها اتفاق الطائف. ويشتبه جنبلاط بأن عون يضمر مشروعاً لتحجيمه كان جنرال ممانع آخر هو إميل لحود حاول تنفيذه، لكن الرياح لم تسعفه.
قبل شهور من انتخاب عون رئيساً بلور جنبلاط موقفاً واضحاً. إذا أيد سمير جعجع وصول عون لن يكون أمامه غير تأييده لتفادي الصدام بالكتلة المسيحية، وحرصاً على مصالحة الجبل التي أبرمت خلال وجود عون في المنفى وجعجع في السجن. ولأن القصر يستحق مصالحة حتى مع العدو الأول والمنافس الأول تجرع عون سم «اتفاق معراب» وحاز تأييد جعجع وبعده جنبلاط بعدما كان حاز تأييد سعد الحريري. لكن القصر صعب في لبنان. الآلة معطلة أصلاً. لا الفساد انحسر ولا حلم الدولة تقدم. ونكبة العهود تبدأ بالمتسلقين في ظلها قبل خصومها.
في لبنان عليك أن تتذكر أنك في لبنان. كان ميشال عون يحلم برؤية مطرقة البرلمان اللبناني تخرج من يد الرئيس نبيه بري. سرعان ما اكتشف أن «حزب الله» الذي لم يبخل عليه بالهدايا وبينها القصر ليس مستعداً لتقديم هدية بهذا الحجم. بري الذي حلم بتفادي رؤية عون في القصر لم يحصل من الحزب على هدية بهذا الحجم. إنه موسم السم وقد تجرع جنبلاط منه كثيراً خصوصاً في 7 مايو (أيار) 2008 على يد «حزب الله».
التركيبة اللبنانية مطبخ سم قديم. سم في نزاع المكونات وأشد منه داخلها. أكثر من أي وقت مضى تبدو حصانة عهد عون معلقة باستمرار اتفاقه مع حليفه اللدود سمير جعجع الذي ضاعفت الانتخابات الأخيرة رصيده النيابي. حين يقع الطلاق بين الرجلين ستنطلق معركة تحجيم العهد فعلياً، لأنها لن تعتبر آنذاك تحجيماً لطائفته. بري أستاذ في اختيار التوقيت وجنبلاط لن يتردد في التغريد.
رئيس تحرير «الشرق الأوسط»