راغدة درغام:
يقولون في واشنطن إن طالما الثلاثي العسكري Military trio يمسك زمام السياسة الخارجية الأميركية، ليس مهماً ما يقوله الرئيس دونالد ترامب عن وزير خارجيته ريكس تيلرسون ولا ما ينفي تيلرسون أنه قاله عن ترامب. البعض يصر على أن الرئيس عازم على تولية سفيرته لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، منصب وزير الخارجية ليس فقط لأنها تشبهه في مواقفها المتشددة نحو كوريا الشمالية أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل لأن في باله إرسال مستشارة البيت الأبيض ونائبة مستشار الأمن القومي دينا باول، إلى الأمم المتحدة لإنقاذها من التحقيقات الفيدرالية في خلفية الاتصالات المشبوهة مع روسيا. والبعض الآخر يجزم بأن ترامب مستاء من هايلي ويعتبرها من «العيار الخفيف» ولن تصبح وزير خارجية. كلام الترحيل والعزل والإقالة والاستقالة بات يشبه مسرحية كوميدية– تراجيدية لكنه لن يهدد الأمن القومي الأميركي لأن «التريو العسكري» يدير الأمور، والرئيس مرتاح إلى ذلك طالما الأسس متفق عليها. هذه الأسس هي، بحسب مصدر مطلع، أولاً، حماية الوضع الراهن في السياسة الأميركية الخارجية بما في ذلك الاحتفاظ بالاتفاق النووي مع إيران مع محاولة تجميله أو إصلاحه. ثانياً، التفاهم مع روسيا بالذات في سورية ثم في أماكن أخرى. ثالثاً، احتواء المفاجآت.
هناك في واشنطن مَن يعتقد أن صمام الأمان الذي يحمي السياسة الخارجية الأميركية من الفوضى هو ريكس تيلرسون. يقول هؤلاء إن دونالد ترامب ليس عاقلاً ولا متماسكاً وإنما هو بطبيعته فوضوي واعتباطي وخطير، وإن تيلرسون يجب أن يبقى وزيراً للخارجية لأنه صمام الأمان.
بعض الذين يحترمون ويقدّرون ريكس تيلرسون يطالبونه بالتنحي عن المنصب لأنه بات «معطوباً»، بعدما هزّأه ترامب علناً أكثر من مرة آخرها عندما قال ساخراً: «قلت لريكس تيلرسون، وزير خارجيتنا الرائع، إنه يضيّع وقته وهو يحاول أن يتفاوض مع الرجل الصاروخ الصغير»، إشارة الى زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. سبق وقطع الرئيس الطريق على وزير خارجيته في أكثر من مناسبة وحجّم المواقف التي يتبناها مثل تلك المعنية بالأزمة القطرية حين وافق ترامب رأي السعودية والإمارات ومصر والبحرين فيما اتخذ تيلرسون مواقف وسطية.
هذا الأسبوع، اضطر تيلرسون أن يتأقلم مع الواقع. فضّل الاحتفاظ بالمنصب بشروط تم إملاؤها عليه. «استسلم. كتبوا له النص الذي عليه الالتزام به، وخضع»، قال أحد المراقبين في واشنطن، مشيراً إلى الثلاثي صانع القرار الأساسي للسياسة الخارجية. تيلرسون نفى قطعاً أنه وصف الرئيس بأنه «مغفل»، وأكد أنه لم ينوِ أبداً الاستقالة كما ذكرت التقارير الصحافية، وقال: «لم تخطر ببالي أبداً فكرة الرحيل. عيّنني الرئيس وأنا باقٍ طالما أن الرئيس يعتقد أنني يمكن أن أكون مفيداً من أجل تحقيق أهدافه».
هذا يعني أنه قد تم احتواء الأزمة مع تيلرسون طبقاً لما يريده دونالد ترامب، أي على أساس شروط صارمة خلاصتها أن على ريكس تيلرسون الالتزام بالنص وعدم الخروج عنه تحت أي ظرف كان. يعني أيضاً أن طموحات نيكي هايلي بأن تحل في منصب وزير الخارجية ارتطمت بالحائط، أقله هذه الفترة.
هناك رأيان في ما يخص نيكي هايلي وما يريده دونالد ترامب لها. رأي يقول إن ترامب يكنّ لها بالغ الإعجاب والتقدير وهو سيختلق المشاكل مع تيلرسون لأنه عازم على تعيينها خليفة له. الرأي الآخر، وهو لمصدر مقرّب جداً من البيت الأبيض يصر على خطأ معلومات أصحاب الرأي الأول، وهم أيضاً مطّلعون على أجواء واشنطن. يقول المصدر المقرب من البيت الأبيض إن الرئيس ترامب منزعج من نيكي هايلي بمقدار انزعاجه من ريكس تيلرسون «لأن كليهما يتصرف على هواه وهما يتنافسان أحدهما ضد الآخر فيما عليهما تنفيذ سياسة الرئيس حصراً». يضيف المصدر أن «الرئيس ترامب يرى أن نيكي هايلي تسوّق إعلامياً لنفسها وتتصرف وكأنها شخصية سياسية، فيما يفترض أن تقوم بمهمات السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة ولا تسرق الأضواء من الرئيس».
الرئيس ترامب، يقول المصدر، وكذلك كثيرون في البيت الأبيض ينظرون إلى نيكي هايلي بأنها «ليست جوهرية» (not Substantive) وأنها تستخدم المنصب لتسويق طموحاتها بأن تترشح للرئاسة، وهذا يضايقهم كثيراً، لذلك يتحدى أصحاب هذا الرأي الحكمة السائدة بأن دونالد ترامب بالغ الإعجاب بسفيرته وأنه يعتزم بعد بضعة أشهر تعيينها مكان ريكس تيلرسون وزيرة للخارجية. يتحدون أيضاً ما يُشاع عن أن دينا باول مرشحة لأن تصبح السفيرة في الأمم المتحدة في حال عيّن الرئيس نيكي هايلي وزيرة للخارجية، ويقولون إن «ستيفن بانون لن يسمح بذلك»، إشارة الى استمرار بانون في التأثير في البيت الأبيض حتى بعدما غادره أخيراً.
هذه البلبلة وهذا التضارب ليس غير اعتيادي في زمن إدارة ترامب التي تتخبط في إقالات واستقالات: ثم إن الرئيس «معطوب» في رأي نصف الأميركيين «يمشي على عكازتين»، وفق تعبير أحدهم. إنه الرئيس المثير للجدل، وكذلك للانقسام الداخلي ليس بين جمهوريين وبين ديموقراطيين فحسب، بل داخل الحزب الجمهوري الذي أجبره دونالد ترامب على القيام بترشيحه للرئاسة، فالداخل الأميركي ليس بخير. لكنه ليس على وشك الانهيار.
السياسة الخارجية في عهد دونالد ترامب، كما أقرها العسكريون في السلطة، هي استمرار لسياسات سلفه باراك أوباما، باستثناء العلاقات الودية مع دول الخليج ومصر، وبالذات السعودية، باراك أوباما وضع الأولوية الإيرانية فوق كل اعتبار وارتأى الجفاء مع الدول الخليجية ومصر لصيانة اندفاعه لتحقيق النقلة النوعية في العلاقات الأميركية– الإيرانية وتوقيع الاتفاق النووي مع طهران. أغمض عينيه عن كل التجاوزات الإقليمية الإيرانية في سورية والعراق واليمن ولبنان، باسم الاتفاق النووي، بل شرّع هذه التجاوزات عملياً، لأنه وافق على فصل الطموحات الإيرانية الإقليمية عن المفاوضات النووية.
دونالد ترامب تعهد بإصلاح العطب والخطأ في سياسات باراك أوباما نحو التجاوزات الإيرانية في الجغرافيا العربية، لكنّه فعلياً ينفذ «الفصل الثاني» من هذه السياسات. لذلك لا تقوم إدارته بأي إجراءات لمنع إيران من تسلّم الأراضي المحررة من «داعش» في سورية على أيادي «الحرس الثوري» الإيراني والميليشيات التي بإمرته، وفي العراق عبر «الحشد الشعبي». نيكي هايلي تتوعَّد في مزايدات لفظية وخطابات رنانة في مجلس الأمن. الواقع على الأرض يفيد بأن التفاهمات مع روسيا، بما في ذلك مكافأة إيران ميدانياً في سورية، هي من أهم ركائز السياسة الخارجية الأميركية. وهذا ما أقره الرئيس ورجاله العسكريون، وعلى رأسهم وزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشار الأمن القومي أتش آر ماكماستر، ووزير الأمن القومي الداخلي دونالد كيللي.
دونالد ترامب يعتمد على الثلاثي العسكري وهو لا يريد المفاجآت. يريد حماية الوضع الراهن. الآن، تم احتواء الأزمة مع وزير الخارجية الذي لن يستمر بأي نوع من الارتجالية أو الاستقلالية، وبالتالي قد تكون السياسة الخارجية أقل تخبّطاً في الساحة العلنية. والأرجح أن تكبح نيكي هايلي أسلوبها الإعلامي بعدما بدا واضحاً أن ريكس تيلرسون باقٍ في المنصب لفترة ما.
أولى محطات الواقعية البراغماتية ستكون واضحة عندما تتحدث إدارة ترامب بصوتٍ واحد لدى مراجعة الاتفاق النووي مع إيران الأسبوع المقبل. وزير الدفاع خاطب مجلس الشيخ هذا الأسبوع بلغة الدعم القوي للاتفاق النووي، وقال: «النقطة التي أود توضيحها هي أنه إذا استطعنا التأكد من التزام إيران الاتفاق وتحديد ما إذا كان هذا يصب في مصلحتنا، فينبغي لنا الاستمرار به». وأضاف أن في غياب مؤشرات على عدم التزام إيران الاتفاق، فإن على الرئيس أن «يدرس الاستمرار فيه». هذا كلام لا يشابه التوعّدات السابقة لإدارة ترامب.
إنها سياسة أوباما في فصلها الثاني بغض النظر عن تخبط الشخصيات في إدارة ترامب.