يضيق الخناق حول الرئيس الاميركي دونالد ترامب، ذلك أنّ قراره بإقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية جيمس كوفي فتح أبواباً إضافية للأزمة التي ما برحت تُثقل كاهله منذ لحظة انتخابه، والمتعلّقة بتواصل غير شرعي لمسؤولين في حملته الانتخابية مع الاستخبارات الروسية.قرار الإقالة الذي جاء فظّاً ومهيناً، حيث علم كوفي به من وسائل الاعلام أثناء توجّهه الى لوس انجلس، أتى قبل أيام معدودة من شهادة كان سيُدلي بها أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ حول روسيا.
الاهم أنّ هذه الإقالة هي الثالثة في الإطار نفسه، بعد القائمة بأعمال وزير العدل سالي ييتس والمدعي العام لمقاطعة جنوب نيويورك برييت باحارا، كذلك لا يمكن فصل ذلك عن إقالة مستشار الامن القومي السابق مايكل فلين الذي رفض تسليم وثائق إلى لجنة التحقيق المنبثقة عن مجلس الشيوخ تتعلّق بالتخابر مع روسيا، ما دفع اللجنة إلى إصدار مذكرة إحضار في خطوة نادرة.
وكوفي الذي أُقيل في السنة الثالثة من ولايته التي كان من المفترَض أن تمتدّ عشر سنوات، لمّحَ إلى أنّ لقرار إقالته علاقة بالتحقيق القائم حول التخابر مع روسيا وبرفضه تغطية ترامب.
وأبرز دليل على دخول ترامب النفق الصعب تشبيه الاوساط السياسية والاعلامية الاميركية ما حصل بفضيحة «ووترغيت» التي أخرَجت ريتشادر نيكسون من البيت الابيض.
ترامب المحاصَر بتدنٍّ تاريخي من شعبيّته وبملف التخابر مع روسيا، يُحاول الإفلات من خلال ملفين: الأوّل الدفع باقتصاد بلاده الى الامام من خلال الحصول على استثمارات وعقود ضخمة جديدة، والثاني تحقيق انتصارات خارجية تسمح بتلميع صورته.
في موضوع الاستثمارات، نجَح ترامب حتى الآن في تأمين عقود لقطاع الأسلحة، واحد مع السعودية بعشرات مليارات الدولارات، وآخر مع الامارات بمليارَي دولار، وأنجز كذلك تفاهماً مع الصين يفتح الأبواب امام تصدير البضائع الاميركية.
لكنّ الانتصارات الخارجية الأخرى تبدو أكثر تعقيداً، فالسقف العالي الذي رسمه في نزاعه مع كوريا الشمالية لم يُثمر، فالتهديدات العسكرية لم تكن قابلة للتحقيق، وذهبت الامور الى المفاوضات السياسية ما حرمه من انتصار كان يطمح اليه.
وفي أوروبا، شهد اليمين المتطرّف خسائر متلاحقة ما بين النمسا وهولندا وأخيراً فرنسا، أما في افغانستان فقد نجحت حركة «طالبان» في استعادة مناطق كثيرة ما جعلها تُهدّد جدّياً الحكومة القائمة والموالية لواشنطن، لذلك طلب الرئيس الاميركي من وزير دفاعه جيمس ماتيس وضع تصوّر واضح لخطة هجوم مضاد تحمل أبعاداً استراتيجية، لكنّ هذه الخطة لم تجهز بعد بسبب التحدّيات الكثيرة الموجودة.
وفي الميدان السوري، تزداد التعقيدات يوماً بعد يوم في شأن معركة القضاء على «داعش» والتي تريدها الادارة الاميركية في أسرع وقت ممكن.
ولذلك أعلن ترامب عن قراره بتسليح «قوات سوريا الديموقراطية» الكردية سلاحاً ثقيلاً مستبِقاً وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى واشنطن المقرَّر في 16 الجاري، وهو العارف بالغضب التركي إزاء خطوته. وعندما أصدر ترامب قراره المثير كان وفد عسكري تركي يزور واشنطن برئاسة رئيسَي الأركان والمخابرات.
الشرح الاميركي تركّز حول أنّ الهدف هو التحضير لمعركة الرقّة والتي ستبدأ خلال اسابيع وأنّ واشنطن تحتاج إلى القوة الكردية التي أثبتت أنها وكيل عسكري ممتاز ضد «داعش».
لكنّ الوفد التركي أسهب في شرح أسباب الغضب التركي، سائلاً كيف تُعطي واشنطن سلاحاً ثقيلاً لأكراد سوريا فيما هي تعلم بمستوى التعاون والتنسيق القائم بين أكراد سوريا وتركيا والعراق، واضعاً علامة استفهام حول الخلفية التي تقف وراء هذا التسليح، وملمّحاً الى وجود نيات غير بريئة تجاه جنوب تركيا، حيث الأكراد.
وحسب المعلومات التي تمّ تسريبها، فإنّ القيادة العسكرية الأميركية وعدت بمراقبة صارمة لتحرّك اسلحتها الممنوحة للأكراد وبتعزيز التعاون الاستخباري بين أميركا وتركيا عبر تعزيز مركز «دمج المعلومات الاستخبارية»، والذي سيؤدي الى استقدام مزيد من طائرات التجسّس الاميركية المتطوّرة التي تعمل بلا طيار ووضعها في خدمة المركز.
لكنّ تركيا التي باتت تجد نفسها أقرب إلى التنسيق مع روسيا منه مع الأميركيين، تُدرك أنّ الاكراد يريدون تحقيق تواصل جغرافي بين عفرين وبقية الشريط قرب الحدود. وهو ما سيؤدّي إلى منع تركيا من التأثير في الداخل السوري، وخصوصاً في حلب ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى بالنسبة إليها.
ومع وجود قوات أميركية، فهذا يعني حماية أميركية لظهر القوات الكردية، فيما أردوغان يطمح الى شريط سوري خاضع لنفوذه بعمق 30 كلم. بينما إنشاء كيان عازل كردي على حدودها سيتحوّل لاحقاً منطقة حكم ذاتي مثل كردستان العراق، ما سيفتح شهية أكراد تركيا على إقامة دولة انفصالية مشابهة. لذلك تبدو أنقرة أقرب إلى موسكو التي غضّت النظر عن عملية «درع الفرات».
إزاء كل هذه التعقيدات، يجد الرئيس الاميركي أن لا مفرّ من وضع ثقله في الملف الاسرائيلي – الفلسطيني ليُحقّق إنجازه الموعود. وقد عبَّر عن ذلك مصدر فلسطيني قريب من الرئيس محمود عباس حين اعتبر أنّ لقاء عباس بترامب «كان واعداً».
صحيفة «وول ستريت جورنال» القريبة من البيت الابيض، كتبت أنّ بإمكان ترامب إنجاز اتفاق لأكثر المناطق اضطراباً في العالم، أي الشرق الاوسط، إذا كان يملك المهارة والصبر والقليل من الحظ. وأضافت أنّ أهمّ ثلاثة حلفاء لأميركا، أي مصر والسعودية واسرائيل، تجمعهم الآن علاقات ممتازة مع ترامب بالإضافة الى استعدادهم لمواجهة التوسّع الإيراني وتنظيم «داعش «في آن معاً.
«حماس» أعلنت عقيدة جديدة في وثيقتها الأخيرة. وفي إيران تتّجه الانتخابات إلى منح الرئيس حسن روحاني ولاية جديدة، ما يعني ولاية تفاوضية جديدة وليس ولاية قتالية.
إسرائيل محشورة ولكنّها غير قادرة على إشهار معارضتها العلنية خشية الاصطدام بترامب «الجريح» الذي سيزور مناطق السلطة الفلسطينية، ويعمل للقاء بين بنيامين نتنياهو وعباس في حضوره، وهو لن يحقّق وعده الانتخابي بإعلان نقل السفارة الى القدس بعدما أقنعه ملك الأردن خلال زيارته لواشنطن بأنّ خطوة كهذه ستساهم في نشر «داعش» في فلسطين وستُسقط الأنظمة العربية الحليفة للأميركيّين.
في هذه الأجواء، أنجزت روسيا اتفاق «المناطق الآمنة» في سوريا، وهو ما تبعه إعلان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله تفكيك قواعد الحزب عند السلسلة الشرقية، ولو أنّ هذه الخطوة جاءت وفق حسابات «حزب الله» الميدانية وبعدما أصبحت المنطقة من وادي بردى إلى الزبداني فجرود عرسال منطقةً آمنة.
الخطوة التي تُبدي الاوساط الغربية ارتياحها اليها، يعتبرها «حزب الله» ترجمةً لانتصاره الميداني، لكنّ الأهم أنّ «حزب الله» سيدعو النازحين السوريين في لبنان للذهاب اليها كونها أصبحت آمنة. وعلى الأرجح سيتلكّأ هؤلاء بالعودة وستغضّ المنظمات الدولية عينها عن ذلك.
لكنّ حسم الوضع في جرود عرسال إن لم يكن سلماً وبالتفاوض، فبالمعركة كما أنذر نصرالله، ولو بعبارات لطيفة وناعمة. هذا الحسم سيوسّع المنطقة الآمنة وسينزع الذرائع امام الجميع لعودة النازحين الى داخل سوريا ولو أدّى ذلك لتدابير جدّية من السلطات اللبنانية.
هذا الواقع سيعني ترتيباً إضافياً، ولو بنحو آخر للمنطقة السورية المحاذية للحدود اللبنانية بما يشبه، ولو من بعيد، التفاهم الروسي – الإيراني – التركي. وهو يتناغم على صعيد أوسع مع المناخ الإيجابي الذي يهب على المنطقة والذي دفع ربما بنصرالله الى التأكيد أن لا حرب كما يهوّل البعض. مع الإشارة إلى أنّ الرئيس الأميركي سيتطرّق الى الملف اللبناني من زاوية واحدة خلال لقائه الزعماء المسلمين في السعودية: ساعدوا لبنان بالحفاظ على استقراره”.
(الجمهورية)