راغدة درغام:
بين الضجيج الأميركي والسكون الروسي، أصابت الدهشة أولاً أكثرية الدول المشاركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترامب بلغة «تدمير» كوريا الشمالية النووية إذا استمر قائدها بالاستفزاز الخطير، ثم بدأ التعمق في الاختراق الذي حققته روسيا عبر البوابة السورية باستعادتها الماكنة والقيادة والاعتزاز بقوميتها وببراعة الانتقام من الغرب الذي أهانها في ليبيا عندما استهان بها وغدرها، بحسب رأيها.
بدت الديبلوماسية الروسية هادئة في غاية الاطمئنان بسبب إقرار كل اللاعبين بأنها العنوان الرئيسي لمستقبل سورية حيث توزّع الحصص والنفوذ والجغرافيا كما ترتأي. السبب الأهم هو أن التفاهمات الروسية- الأميركية ماضية إلى الأمام وراء الكواليس في الشأن السوري، وهي تشق طريقها إلى مسألة أوكرانيا، بغض النظر عن المهاترات العلنية. هذا لا يعني أن الصفقة الكبرى باتت وشيكة، بل يوحي أن للكبار حديثاً مختلفاً عن أحاديث الآخرين. فمواقع الخلاف والاختلاف بين واشنطن وموسكو عدة، من كوريا الشمالية إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعلى كليهما التأقلم حيناً وشد الحبال حيناً آخر.
الاتحاد الأوروبي ليس بذلك القدر من الأهمية عندما يتعلق الأمر بكوريا الشمالية، لكنه مهم عندما يُطرح مصير الاتفاق النووي مع إيران لأن طهران تعوّل على الاتحاد الأوروبي في المواجهة مع واشنطن بعدما أوضح ترامب أنه اتخذ قرار الانقلاب على مبادئ سلفه باراك أوباما، من النووي إلى شرعية النظام في طهران مروراً بالتوسع الإيراني في الجغرافيا العربية. إيران تكابر، لكنها قلقة. الدول الخليجية المعنية مرتاحة إلى تشدد ترامب في الأمم المتحدة، إنما التساؤلات مستمرة في الأوساط الدولية عما إذا كانت أطروحات ترامب في خطابه من منبر الجمعية العامة تشكل السياسة الأميركية الرسمية البعيدة المدى جدياً، أم أنها مجاملة ورفع عتب وإرضاء للاستهلاك ولنزعة الصدمة لدى ترامب بأمل أن تؤدي إلى التنازلات؟ فوصف إيران بأنها دولة «مارقة» تستخدم مواردها «لتمويل ديكتاتورية بشار الأسد وحزب الله ومنظمات إرهابية أخرى» شيء، واتخاذ واشنطن إجراءات ترحيل إيران من سورية شيء آخر. في الوقت الحاضر، هناك الكثير من علامات الاستفهام وسط الضجيج الأميركي والسكون الروسي اللافتين والمريبين.
هناك رأي يقول إن هدف ترامب هو المزايدة من أجل المساومة للحصول على أفضل الصفقات. فمع كوريا الشمالية، يأتي توعّد ترامب بـ «تدمير» البلد بكامله كرسالة إلى الصين بأن عليها أن تكون أكثر جدية حيال المسألة الكورية بدلاً من الاسترسال في ذرائع الخوف من انهيار كوريا الشمالية فيما بين أياديها أدوات خنق النظام هناك، لو شاءت. ترامب حرص أيضاً على أن يوجّه صفعة مهينة للنظام الشيوعي في الصين في خطابه أمام الأمم المتحدة ليزايد عمداً وكأنه يفتتح جولة مفاوضات.
مع إيران، أبلغ دونالد ترامب جميع المعنيين أن الاتفاق النووي الذي أبرمته الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا لم يعد مقدّساً كما كان عليه في زمن أوباما. لم يقل إنه سيمزّق الاتفاق، لكنه أخرجه من القداسة المطلقة التي أحاطه بها أوباما، وفتح باب إدخال مسألة الصواريخ الباليستية إليه. وهذا أمر رفضه الرئيس الإيراني حسن روحاني رفضاً قاطعاً إذ قال إما تبقى الاتفاقية كما هي بحذافيرها ومواعيدها، أو لا تكون. أوضح روحاني أيضاً أن الاتحاد الأوروبي في الموقع المركزي والأهم في مصير الاتفاقية، وليس فقط الصين وروسيا. لم يقل ماذا ستفعل تماماً الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حال تمزيق الرئيس الأميركي الجديد للاتفاقية التي جعل منها سلفه إنجازه الأكبر والتاريخي. أخفى قلقه، وكابر.
فما طرحه دونالد ترامب لم يقتصر على الناحية النووية من تعهدات باراك أوباما، أي، الإنجازات الثلاثة لطهران. فباراك أوباما خضع لشرط أساسي للجمهورية الإسلامية الإيرانية أثناء المفاوضات النووية وهو شرط فصل أدوارها الإقليمية عن الاتفاق النووي. هكذا صادق أوباما، عملياً وفعلياً على مشاريع إيران التوسعية في الجغرافيا العربية الممتدة من العراق إلى سورية ولبنان وكذلك اليمن، باسم صيانة الاتفاق النووي. أوروبا دعمته في ذلك. وهكذا جلسوا جميعاً أمام مجزرة سورية صامتين عن دور إيران فيها لإنقاذ بشار الأسد، وانساقوا نحو تحويل المسألة السورية إلى قضية مكافحة الإرهاب الذي أتى لاحقاً.
ترامب تعهد في خطابه أمام الأمم المتحدة- لفظياً على الأقل- بأنه لن يستمر بسياسة أوباما التي أعفت إيران من المحاسبة على تجاوزاتها الإقليمية كي لا تخدش الاتفاق النووي. أدى ذلك إلى تمكين «الحرس الثوري» الإيراني من مضاعفة مغامراته في سورية والعراق واليمن بمساعدة من «حزب الله» اللبناني، فأتت سياسات أوباما لتكافئ إيران بدلاً من محاسبتها. يقول ترامب اليوم إنه اتخذ قرار التخلي عن هذا الإنجاز الثاني المهم للجمهورية الإسلامية الإيرانية وهو يؤكد أنه سيصدّها وسيحرمها من المكافأة المتمثلة في توطيد وجودها في سورية والعراق.
الشرط الثالث الذي رضخ له باراك أوباما ويتملص منه دونالد ترامب هو الإقرار بشرعية النظام الحاكم في طهران والتعهد بعدم دعم معارضيه. قال: «سيأتي اليوم الذي يختار فيه الشعب بين الإرهاب والفقر أو أن يعود بإيران دولة فخورة ومهداً للثقافة والثراء والازدهار». استفاض في الحديث عن الوضع الداخلي في إيران واصفاً النظام بأنه يغطي الديكتاتورية بمظاهر الديموقراطية. هذه لغة جديدة في السياسة الأميركية بعد أوباما، وهي لغة تقترب من التحريض على قلب النظام. هل هذه الكلمات التي نطق بها ترامب مجرد «علك» لفظي، أم أنها تغيير جذري جدي تليه إجراءات؟ الغموض يكتنف الجواب، أقله الآن.
الدول الخليجية المعنية مباشرة بالأزمة مع إيران مرتاحة لخطاب ترامب خصوصاً رسائله إلى إيران. مسؤول خليجي اشترط عدم ذكر اسمه قال: «في إمكاننا التعايش» مع انسحاب ترامب من الصفقة التي أبرمها أوباما ومن الاتفاقية النووية. قال إنه لو تم إدخال عنصر الصواريخ الباليستية على الاتفاقية النووية، ولو تم كبح الطموحات والتدخلات الإيرانية الإقليمية، عندئذ تكون الصفقة النووية جيدة. عدا ذلك، أثبتت السنوات الأخيرة أن ما تمناه أوباما من أن تكون الاتفاقية نقطة تحول لإيران- إقليمياً وداخلياً- لم يتحقق. فلا الاعتدال يحكم في طهران، ولا تراجعت إيران عن سياساتها التوسعية.
يقر الخليجيون بأن مواقف إدارة ترامب نحو إيران بدءاً من وعودها في قمة الرياض إلى خطاب الرئيس في الأمم المتحدة لم تقترن بضغوط ميدانية. فإيران ترتب أوضاعها العسكرية والسياسية والاقتصادية في سورية والعراق واليمن كما ترتأي من دون أي تحدٍ ملموس لها.
الجديد هو الحديث عن إدخال عنصر الصواريخ الباليستية على الاتفاق النووي، والدفع نحو عملية سياسية في سورية على أمل أن تؤدي إلى تكبيل السيطرة الإيرانية هناك. هذا من وجهة النظر الأميركية وبعض الدول الخليجية. هذه الدول تتمسك اليوم بالطروحات الروسية لسورية على رغم غموض الصفقات الروسية مع تركيا وإيران. ما ترفضه هو المحاولة الفرنسية لإقحام إيران في العملية السياسية لسورية لشرعنة دورها هناك.
فرنسا دخلت على الخط عبر اقتراح إنشاء «مجموعة اتصال» تتكوّن من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا) ومن مجموعة دول معينة- وفي ذهنها إيران في الطليعة. مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هدفها تشريع الدور الإيراني في العملية السياسية ما بعد محادثات آستانة بين الضامنين الثلاثة- روسيا وتركيا وإيران- وذلك بالتنسيق مع روسيا تحت عنوان دعم جهود المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا.
فرنسا لا تعدي أية أولوية أو أهمية لانسحاب إيران من سورية فهي ملتزمة بأولوية الاتفاق النووي وصيانته على حساب الجغرافيا العربية. تهديد مصير الاتفاق النووي إنما يعزز استعداد فرنسا والاتحاد الأوروبي للاستمرار في غض النظر عن طموحات إيران الإقليمية.
ما هي الاستراتيجية الخليجية إزاء كل هذا؟ رفض فكرة ماكرون إدخال إيران طرفاً شرعياً في العملية السياسية لسورية في الوقت الذي تتعاون مع القيادة الروسية للحل في سورية. ما ستفعله هو العمل على توحيد المعارضة السورية لتقدم نفسها «كصوت مدني علماني» بحسب تعبير أحد الخليجيين، والتحدث بصراحة مع روسيا «إنما هذا لا يعني أن موسكو ستقتنع بطروحاتنا» في ما يخص شرعنة دور إيران أو غير ذلك.
الأولوية الخليجية في التصدي لإيران ليست عبر سورية وإنما عبر العراق، بحسب المصدر الخليجي إذ إن «مفتاح تحدي إيران هو في العراق وليس في سورية». والسبب هو أن تحدي إيران في سورية يعني تحدي «حزب الله» وهذا «قد يؤدي إلى حرب إقليمية». أما في العراق، فهناك وسائل تأثير خليجية، إضافة إلى «أن حدود العراق متاخمة لإيران». هذا لا يعني التخلي عن الإصرار على أولوية ترحيل إيران وميليشياتها عن سورية بأقرب ما يمكن لأن التلكؤ في ذلك سيؤدي إلى «مأسسة» الوجود والنفوذ الإيرانيين في سورية.
هل هناك خطة لتنفيذ ذلك؟ وهل هناك حديث جدي مع روسيا في هذا الصدد؟ لا، يقول المسؤول الخليجي. إنها تمنيات. إنها رهان على أن تصبح هذه سياسة أميركية جدية وأن تنفتح روسيا على الأخذ بالتمنيات.