Lebanon On Time –
كرّم تجمع “فيحاؤنا – حاضنة الثقافة لكل الأزمان” الروائي الدكتور رشيد الضعيف في مركز الصفدي الثقافي وسط إحتفالية حضرها عدد واسع من القامات الدينية والروحية ورؤساء وأعضاء هيئات وجمعيات وتجمعات ثقافية وأكاديمية وفاعليات إجتماعية في طرابلس ومختلف المناطق اللبنانية .
البداية كانت مع النشيد الوطني اللبناني وكلمات لعريف الاحتفال الدكتورة بشرى فرنجية
ومن ثم كلمة تجمع “فيحاؤنا” ألقاها الدكتور جان توما وجاء فيها: مساء فيحاء الرواية، برواتها وشخصياتها ومفاصل أحداثها. مساء الرواية التي صارت في هذا الزمن ديوان العرب. تكتب التاريخ، تعدّل، تمظّهر المشاهد، تقول كلمتها ولا تمشي.
” فيحاؤنا” تروي في سجل البلد والجوار شيئا كساقيّة تعرف كيف تروي عطش الناس إلى معرفة ما، وفكر ما، لتصبح في ألف رقرقة ورقرقة، أليفة الكلمة والكلمة.
عشر جمعيات ما ارتدت لباس شهرزاد لتحكي وتتقمّر كركونٍ إلى ظلمة، أو استباحة صباحات العالم الحكواتيّ ، بل سعت ” فيحاؤنا” ‘ إلى أن تظهّر طرابلس ومحيطها كمدينة ثابتة في علمها وعلمائها، في كتّابها وفنانيها، في بساطة أهلها وتراثهم الحضاريّ ما بين تراث وتجديد ومعاصرة.
في هذه الأمسيّة تعيد “فيحاؤنا” جمالات التواصل العربيّ، ويفوح عطر المدينة ما بين مصر والجزائر ليؤكّد وحدة اللغة في الأبجدية الإبداعيّة الغارفة من نهر النيل، المحلّقة فوق جبال أطلس، والمرتدية جلباب الضباب الطالع من وادي القديسين إلى حرش إهدن.
” فيحاؤنا” مشروع ثقافيّ جبله الحراك الفكريّ في المنطقة، فتراكمت الخبرات، وتآزرت العقول، لتقديم روزنامة ثقافيّة متنوّعة، في الفنون السبعة وما بعد . صارت “فيحاؤنا” منصّة محلّية، عربيّة، دوليّة، همّها تثبيت هويّة الفيحاء، كما كانت، على خارطة الثقافة، تعاونًا وتضامنًا ومشاركة فعليّة في تطوير قدرات المدينة العلميّة من أجل بهاء فكر رشيد وغير ضعيف، فكيف إذا كان ضيفها في هذه الأمسيّة الروائيّ الصخرة رشيد الضعيف؟!
هذا الرشد الروائيّ الإبداعيّ الذي رسم ملامحه رشيد الضعيف في رواياته الغارقة في قضايا الإنسان في الانتماء والهوية، وفي الحداثة، ومعارج التضاد والثنائيات والتباينات كما في جمعه اليوم بيننا كقراء ونقّاد ليستقيم إملاء النصّ ما بين “فؤاد الأماني” و”الفاروق الفضيلة”.
وكان خلال الندوة كلمات لكل من الدكتورة أماني فؤاد من مصر والدكتورة فضيلة فاروق من الجزائر تناولتا فيها الفن الروائي لدى الدكتور رشيد الضعيف.
وتضمنت كلمة الأستاذة الدكتورة أماني فؤاد أستاذة النقد الحديث في أكاديمية الفنون في القاهرة الإشارة الى أن وقوف النقد أمام تجربة روائية متمردة وثرية كتجربة دكتور رشيد الضعيف، الروائي، والمفكر المهموم بثقافته ووطنه، وبالإنسان، عليه أن يكون أكثر تمردا، أكثر قدرة على تحليل وكشف ما بين سطور السرد وصفحاته، استنطاق الكتابة التي تتأسس على الجرأة والتفرد والكشف والتجريب، الكتابة التي تبتعد عن الممالاة لأي موروث مهيمن، سياسي أو ديني أو اجتماعي
ورصد التحولات الفكرية التي تنقّل بها الكاتب في إبداعاته، وتنوع أشكال الكتابة التي تجاورت في مشروعه، فعند قراءة وتحليل إبداعات د. رشيد الضعيف وفي نظرة كلية لمشروعه السردي أستطيع أن أميز عدة مراحل فكرية وتحولات تتابعت على الروائي، ومجموعة من السمات والملامح الفنية التي تختص بها كتابته، رغم تجواله في مساحات متسعة من اللعب والتجريب في التقنيات السردية.
بدأ رشيد الضعيف محاولات الكتابة وهو ابن الضيعة الجبلية في إهدن، بكل موروثاتها الثقافية التقليدية التي تقاوم أي تغيير يحدثه العلم والعقلانية، ثم كانت مرحلة تفتح الوعي وثوريته، في مرحلة الإيمان بمبادئ الاشتراكية، من قبل اندلاع الحرب وأثنائها، ثم حلقت في آفاقه غيمة من العدمية، بعد الحادث الذي جعله يقترب من الموت، فيواجه الكاتب زيف المقولات والحكايات الكبرى تحت وقع آثار الحرب بكل ما سببته من دمار وموت، وبالرغم من ظلال العدمية التي ظلت مقيمة بوعيه العميق يستمر بالكتابة التي ترصد الواقع وتشاغبه، ثم التوجه نحو كتابة الرواية التي تعتمد في بنيتها على الميثولوجيا، وتيار الفانتازيا والتخييل الرحب، وفي كل هذه المراحل لم يتخل رشيد الضعيف عن تأمل الواقع ونقده بالوعي العميق المبطن بالسخرية في العديد من نصوصه حيث يسعى للتفرد في كل أشكاله، ومستوياته، بداية من مناظير وفضاءات وعيه بالحياة، وكشفه الدائم للوجه الآخر من الحقائق، المنظور غير الشائع ولا المألوف الذي يراه الجميع، حيث الرغبة في رؤية الأمور بطريقة أكثر تجردا، وعقلانية، وتغليب المنطق والابتعاد عن حالة سيولة العواطف وترهلها، بل تنفرد سرديات رشيد الضعيف بالمشاعر المركبة التي تتداخل فيها العواطف المتناقضة والمعقدة غالبا، نظرا لثراء تجربته وتوتر المرحلة الزمنية التي انتج فيها ابداعاته على مستويات متعددة.
واللافت أن للكاتب رؤية خاصة للمرأة، المرأة الأم، والحبيبة، فموقف الروائي المعلن من المرأة تقدمي في أحد صوره، يثمن فيه دورها الجوهري في حياة الأسرة والمجتمع، الشجرة الوارفة التي تكفل العطاء والأمان للجميع، كما يعلن عن إيمانه بحريتها فيما تختار وتلبس وتعيش، لكن المتابع لسردياته يستشعر نزوعه على المستوى الشخصي نحو تملك المرأة وعدم تخلصه من موروثاته الثقافية في الوعي الجمعي، والشعور بضرورة الهيمنة الذكورية، استشف هذا من خلال عرضه لمعطيات وتناقضات علاقته بحبيبته ناتالي في نص “ألواح”، كما يتجلى قدر ضخم من الشك والحيرة في العلاقة بين الرجل والمرأة، في روايته تصطفل ميريل ستريب، ولقد سمعته يطالب بحوار تاريخي بين المرأة والرجل حيث بات ضرورة لفض حالة الاشتباك الدائمة تلك.
وتجدر الإشارة الى ان منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ومنذ حادث الانفجار الذي تعرض له الكاتب انهارت الكثير من الحكايات التي طالما دافع عنها الكاتب وتصور أنها الخلاص للإنسان، انهيار الحكايات بدأ مع انهيار النماذج البشرية وإيماناتها، الشخصيات القيادية في الحزب، التي كانت تؤمن بالاشتراكية والشيوعية، تنظّر لها، وتسعى لممارستها على أرض الواقع، كما أن انهيار هذه الأفكار الاشتراكية خلق حالة فراغ وشعور بالعدمية، وخاصة لأن القوى الآخرى الدينية لم تكن مقنعة، ولم توفر الاستقرار ولا التقدم.
وهو ما تطلب خلق حوارية حيوية دائما قائمة على المواجهة والسخرية والعقلانية، وهو ما عبر أيضا عن تحولات وعي الكاتب واتساع آفاقه الذهنية في رؤيته للوجود.
ومن الأحداث، والتفاصيل الصغيرة اليومية ينطلق السرد عند رشيد الضعيف، وتتشكل معالم الواقع، ومنه يرصد القوى المتصارعة في المجتمع اللبناني وتحولاته الثقافية أيضا، لكن يصوغ ويشكل الروائي أحداث سردياته بحيث تكتنز بالكثير من التأويلات للحدث الواحد. ففي تضامين كل واقعة هناك دلالات عميقة متعددة، تبرز منها قضايا جوهرية شغلت الكاتب، قضايا حياتية مثل: العلاقة بين أنا العربي الشرقي والآخر الغربي، حيث المركزية والفوقية الغربية التي تقابل بالعزة والكرامة العربية ومنظومة أخلاقية اعتمدتها سلطة اجتماعية محافظة، وأخرى ميتافيزيقية مثل مفهوم الربوبية وتحولات القيم الأخلاقية وهو ما ناقشه كثيرا في الصراع بين الإيمان الديني والإيمان بالعلم والعقلانية
ويمارس رشيد الضعيف نقده للمجتمع والآجيال السابقة، حيث تقاعس وعيهم عن الربط بين الشأن الشخصي، والوطني العام، وتطوير مفوم الدولة ومدى ارتباطنا بكيانها الواقعي والاعتباري، فينتقد سلوكيات جيل الأباء، كما يسلط الضوء على البراءة في ألواح، وعلى اقتصار عناية الآباء بالملكية الخاصة، نظافة البيوت، وإهمال الملكية العامة، وعدم الشعور بأنها تخص مواطنيها، فكما يقوض الأفكار الكبرى الزائفة التي تجعل في الموت والشهادات بطولات، يقوض أيضا سلوكيات يفرض استمرارها بقاء أوطاننا في حالة من السيولة والفوضى، والافتقار لعلاقة الترابط والمسئولية التي تجمع الأفراد والأوطان.
وفي نهاية هذا الاستعراض السريع تظل الإنسانية هي الغيمة المتعالية التي تظلل نصوص رشيد الضعيف، هي إيمانه الحقيقي الذي وفقه يرى نجاة العالم والبشر معا.
أما الاستاذة فضيلة الفاروق وهي كاتبة واعلامية من الجزائر فقد اعتبرت ان أدب رشيد الضعيف يشكل منعطفاً لتطور الخطاب السردي العربي وتجدّده وهو أكثر الكتّاب العرب بُعدًا عن النوع الروائي الكلاسيكي، وهذا يعني أنه من المجدّدين، ولعلّه أكثرهم طرحا للأسئلة المتعلّقة بالإنسان وعبثية وجوده. تنبعث أصداء رواياته من فضاءاتٍ وأزمنةٍ مختلفة، مزج فيها الألوان والروائح ليخلق لوحات فريدة من نوعها، وقد حرص أن يتطوّر في كل عمل جديد يقدّمه، فهو الكاتب الذي يجعلنا نجوب عوالمَ، منها ما لا يبدو واضحا للعيان في الزوايا المظلمة لمجتمعاتنا، ومنها ما يفوق الخيال بعيدا عن الواقعية السحرية التي حاول بعض كتابنا استحضارها تأثرا بالأدب اللاتيني الأمريكي.
فلننطلق سوياً في رحلة سحرية عبر عالم رشيد الضعيف، حيث تلتقي الحكايات الرائعة بالأفكار العميقة، وحيث يتجسد الجمال في كلماته الساحرة. ، لكن لأكن صريحة معكم، فأدب رشيد الضعيف يجعلك أحيانا تحبه وأحيانا أخرى تكرهه، (هذا شعور عشته شخصيا مع نصوصه) وحين تقرأ شعره تقف حائرا بين النقطتين. أقول ذلك وفق لغتنا اليومية، وحسب القراءة الانطباعية بعيدا عن القراءة الأكاديمية للنصوص أو القراءة الاحترافية المنبثقة من مختصين في القراءة في السنوات الأخيرة.
في المقابل نجد كاتبنا غير آبه بمن كرهه أو أحبّه، كونه في الواقع يحرّر نصوصه من سلطته فيطلق سراحها ويتركها في سبيلها لتعيش مغامرات لا نهائية مع القارئ، والحقيقة الوحيدة التي نقف عليها هي أنّه إنسان مخلص للكتابة وهي تعني له الكثير سواء فتحت له أبواب الجحيم أو أبواب الجنة.
لقد كتب الضعيف وفقا لتأثره بالأساطير العربية: إذ كثيرا ما استخدم عناصر من هذه الأساطير في بناء قصصه وتطوير شخصياتها. كما لجأ للاستخدام المبتكر للعناصر الخيالية: ويبدو أن الضعيف يتقن استخدام العناصر الخيالية في رواياته بطريقة تمزج بين الموروث والخيال بشكل مبتكر، مما يضفي على أعماله جوًا سحريًا وغامضًا. وله قدرة على مزج الفلسفي والروحاني: يتناول الضعيف في رواياته قضايا فلسفية وروحانية عميقة، مما يجعل من قصصه ليست مجرد تسلية بل تحمل معانٍ ورسائل فلسفية تشد القارئ وتدفعه للتأمل. وتقديم الهوية العربية وصراعاتها مع الواقع المعيش: في رواياته خاصة الأولى منها، كثيرا ما سلّط الضوء على التقاليد والقيم والتحديات التي تواجه المجتمع العربي بوضع هذا الفرد العربي المقيد في فضاء معاصر مخالفا تماما سهيل إدريس مثلا في روايته “الحي اللاتيني” أو الطيب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال” وهما نموذجان استهلكا كثيرا إعلاميا وأكاديميا وكأن الزمن متوقف عندهما، ما أثّر على مؤلفين بعدهم بحيث عالجوا الموضوع نفسه بالطرح نفسه. واستخدام الموروث الديني دون البوح به مباشرة: ونجد هذا في الإيحاءات التي تتميز بها بعض شخصياته، كأن تشْبِهَ شخصيةٌ من شخصياته السيدة مريم عليها السلام، أوسيدنا المسيح، أو النبي موسى، أو النبي نوح، وغيرهم من الأنبياء والقديسين، ولعلّ هذا لمسته أكثر في آخر أعماله “الأميرة والخاتم” و “الوجه الآخر للظل”.
ولا يمكننا الاكتفاء بقراءة واحدة لأغلب أعمال الضعيف، كونها تقوم على كثير من الاستعارات والرموز: وهذه طريقته لتعزيز دلالات قصصه وشخصياته وإضفاء عمق وبعض التعقيد للرواية. إذ يبدو أن الأعمال السهلة لا تعجبه.
كما أحب أن أشير إلى نقاط أخرى مهمة في أساليبه وهي : السرد المتعدد وأحيانًا بنية سردية مجزأة واستخدام الصدمة والمفاجأة: والفكاهة والسخرية: والتجريب الأسلوبيي وتساهم هذه الأساليب السردية المتنوعة في ثراء أعمال راشد الضعيف وتعقيدها، مما يوفر للقراء تجربة قراءة غنية بالفروق الدقيقة والمفاجآت. وعلى العموم فان نصوصه تُكتَب بالمتعة مُسربلة بالقلق:
ويقال الكثير عن أدب رشيد الضعيف، وعن قراءته وإعادة قراءته، وما تنتجه هذه القراءات في كل مرة من دلالات. لكنه حتما كاتب متفرّد ببصمته الجمالية، وفكره الإنساني، وأسئلته الوجودية الصّعبة العميقة. أدب بملامح جديدة متجدّدة، وظفت الخارق واللامعقول لكي تقينا من الصقيع على رأيه، أو من الجحيم الذي فتح علينا من كل الجهات من طرف الذين لا يفكّرون، ولا يتأمّلون، ويعتبرون الكتابة مادة ملوّثة لأدمغتهم!
كلمة المحتفى به الروائي رشيد الضعيف
إستهل كلمته بتوجيه شكره لتجمع “فيحاؤنا” مشيراً الى أنه على إتصال دائم بكل من الأستاذ ناصر جرّوس والدكتورة زهيدة درويش كما شكر مؤسسة الصفددي ومركزها الثقافي على الإستضافة والشكر الموصول للدكتورة أماني فؤاد التي تكرمت بالرغم من مشاغلها بالمجيء من القاهرة وكذلك الصديقة الكاتبة والإعلامية فضيلة الفاروق التي نتصارع عليها نحن والجزائر.
وخلص في كلمته متمنياً أن تبقى طرابلس، ليس فقط حاضنة الثقافة لكل الأزمان بل أن تبقى أيضاً حاضنة الشمال بكل الوان مواطنيه وأن تعود الى لعب دورها الريادي في بناء مستقبل لبنان وواحدة من المدن الرائدات في عملية الحداثة والمعاصرة.
تخلل الاحتفال عرض لفيلم وثائقي تضمن مقابلات تلفزيونية وحفلات تكريم متعددة أجريت مع الدكتور الضعيف وعدد من الشهادات الحية بالروائي المكرّم أدلى بها كل الأديب والشاعر فوزي يميّن وخيرات الزين وفاتن حموي.
وفي الختام قدمت درعاً تكريمية للدكتور الضعيف.