بهاء أبو كروم:
التوجه الدولي الذي أفضى إلى اعتماد مسار آستانة كان يقول بالفم الملآن أن لا قدرة على إيجاد حل سياسي راهناً في سورية، وبالتالي البحث عن هدنة تُرحّل الحل إلى أجل بعيد هو البديل عن ضراوة الحرب. استبعاد إمكان الحل السياسي أساسه موضوع الأسد ذاته، وذلك ليس بسبب غياب بديل عنه يؤدي الدور والوظيفة ذاتَيهما، بل لأن إزاحة الأسد تمثل رمزية هزيمة لمشروع، وبقاءه يمثل رمزية انتصار للمشروع ذاته.
في تلك المعمعة يتلازم الإجماع الدولي الذي تقوده روسيا مع التوجه الإقليمي الذي تقوده مصر باعتبار أن هيكل النظام لا يمكن التفريط به، والمؤسسات بما فيها الجيش هي الضامن للحفاظ على مقومات الدولة السورية في المستقبل. الولايات المتحدة التي اشترطت عدم قتال فصائل المعارضة لجيش الأسد منذ البداية سارت بهذه النظرية، وإسرائيل، على غير عادتها في التعامل مع جيوش المنطقة، قبلت بها أيضاً، وبالتالي كان واضحاً أن مشروع الحل الموقت، الذي لا يشترط حرفية مسار جنيف، يفترض انخراط المعارضة بالنظام في شكل من الأشكال، الخلاف هو على النسبة وعلى الضمانات بأن لا تعود سورية دولة استبداد وتُهدَر كل تضحيات الشعب السوري في إطار تسوية كبيرة على حسابه، لكن كيف يمكن أن يظل الأسد وفق هذا التصور؟ وما الحاجة إلى مرحلة انتقالية لو بقي الأسد؟
البروفة الفعلية الأولى لهذا السيناريو لم تكن مُوفقة، فلقد فشلت جهود توحيد أجنحة المعارضة السورية مؤخراً في الرياض. افتراض أن توحيد رؤية المعارضة يستلزم جذب منصتي الرياض والقاهرة إلى المنطق الذي تتحدث به منصة موسكو فيه كثير من التجني على قوى الائتلاف، فالذهاب إلى هدنة تحت ضغط الأمر الواقع لا يشترط التخلي عن التصور الأساسي للحل. وقد بدا أن التوافق مع منصة موسكو يكاد يشبه عملية التوافق مع الأسد ذاته! فالمعروض لم يكن إلا استسلاماً لمقولة أن الإبقاء على مؤسسات ومعالم الدولة في سورية يرتبط حكماً ببقاء شخص الأسد. هذه مكافأه للدور الذي تلعبه روسيا باعتبارها الشرطي الذي يرعى الهدنة لا أكثر، والشبهة تصبح أكثر اتضاحاً عندما يتعلق الأمر بالاتفاقات الاقتصادية وتلك التي توهب أو تُؤجّر المرافق السورية والمقدرات والثروات لروسيا وإيران لعقود من الزمن وكلها ترتبط سياسياً بشخص الأسد وببقاء النظام ذاته أيضاً.
بالأساس لم يكن بقاء النظام وفقاً لهذا التصور مشكلة، المشكلة تكمن في أن يبقى كما هو بخصائصه وطبائعه ورموزه، هذا هو الموضوع، وليس خافياً أن التحول الثوري الذي أعطى الكلمة الفصل للشعوب عام 2011، عاد اليوم ليعطي الإمرة للأنظمة والجيوش. هذه خلاصة مسار تراكمي أفضى، منذ استشهاد الطفل حمزة الخطيب، إلى يقين بأن الأنظمة والجيوش في منطقتنا لا تُحاسَب على فِعلة ولا تُساءل على خطأ، وهي مستعدة لكي تُهزَم أمام العدو على أن لا تفقد هيبتها أمام الشعب. هذا الشعب الذي يُفترض أنه مصدر السلطات! التسويات تجرى في هذا السياق، لا تغيير جذرياً أو إعادة هيكلة للمؤسسات تحدد وظيفة جديدة لدور وطني جديد، ولا هي استنباط لقيادات عسكرية وسطية تُبقي على المؤسّسة وتضمن ديمومة النظام لحين إجراء انتخابات يقول فيها الشعب كلمته النهائية. هذا هو النموذج الذي يلوح في سورية وتعمل القاهرة وموسكو على هذه الرؤية من دون التطرق إلى مصير الأسد، لكن العقبات تكمن في كثير من حيثيات هذا المسار. كيف تدخل سورية إلى سلام أهلي من دون محاسبة أركان النظام والمسؤولين عن إطلاق دورة العنف وعلى رأسهم الأسد، أو من دون مصالحة ترتكز على معايير واضحة، وكيف تجرى انتخابات ويعود اللاجئون الذين قد يعكرون نقاوة وصفاء مجتمعه الذي أصبح، بعد خطابه الأخير، «أكثر صحة وأكثر تجانساً»؟
طبعاً هذا المنطق المقلوب ناجم عن توازن تفرضه الوقائع الميدانية، لكنْ في المقابل لا يوجد مسار قانوني – دولي يدعم عدالة ومشروعية المطالبة بتنحي الأسد، الأمر الذي تبرّره وتشرّعه الأكلاف التي دفعها السوريون جراء تمسكه بالسلطة.
تسليط الضوء على ضرورة توصّل أطياف المعارضة إلى ورقة واحدة قبل الشروع بالحل السياسي، وإن كان من الأفضل أن يتم، إلا أنه بمثابة شرط مسبق بحد ذاته وهو من قبيل التعجيز، وذلك حتى لو احتوت القرارات الدولية على مضامين نجحت روسيا في دسّها بهدف السيطرة على مفاصل الحل. فما الذي يمنع قيام مباحثات متعددة الأطراف، أساسها استعداد النظام لتقديم إصلاحات والتنازل عن امتيازات يملكها، وليس قدرة الشعب أو أطياف المعارضة على هضم تلك التنازلات؟
* كاتب لبناني